علي حسين
نظّارتان، تشبهان نظّارات المتقاعدين، وساعة جيب قديمة، ومجموعة كتب. كانت تلك هي مقتنيات هوشي منه، الثائر والزعيم السياسي الذي أسس فيتنام الحديثة. ساعة قديمة ونظّارتان هي كل ما يملك، فقد كان يقول ضاحكاً للذين يسألونه عن حالة التقشف التي يحيط بها نفسه، حتى بعد أن وقفت الحرب وأصبح زعيماً للبلاد: "الزعامة ليست في حاجة الى المال، إنها بحاجة أكثر الى عقل يفكر جيداً."
وأرجوك ألا تقارن بين ما قاله هذا الرجل النحيل، الذي ترك بلداً يتقدم بقوة الى عالم الرفاهية، وبين ما نهَبه اليوم رجال الزعامة و " الجهاد " في العراق، إذ دخل النهب للمال العام في أبشع أشكاله في العراق، وهو جريمة لا استثناء فيها لأحد: " المجاهدين " ، ودعاة الدولة المدنية، والتكنوقراطيين، وجميع من جلسوا على كرسي الوزارة او تحت قبّة البرلمان. ولهذا لم يكن عجيباً ولا غريباً أن نعرف أنّ معظم الذين يرتزقون من السياسة في العراق هوايتهم الحصول على "مول"، في الوقت الذي لايكفّون في الحديث عن مخافة الله وبناء الدولة ومحاربة السرّاق.
خاضت فيتنام حرباً شرسة ضد الأميركان راح ضحيتها عشرات الآلاف، وماتزال صور المآسي تحتفظ بها هانوي في متاحف خاصة، فيما تعجّ العاصمة الفيتنامية اليوم بالسيّاح الأميركيين والاستثمارات الأجنبية، وعادت سايغون مدينة تفتح ذراعيها للجميع، لكنها لاتنسى أن تحتفل بذكرى أبطالها الذين صنعوا لها المستقبل.
يخبرنا كاتب سيرة هوشي منه أن الزعيم الفيتنامي كان ينصح وزير دفاعه الجنرال جياب ، بعد معركة ديان بيان فو، التي لقّن فيها جياب القوات الفرنسية أقسى دروس الهزيمة، عندما انتبه "العم هو" الى أن قائده العسكري أخذ يكيل المديح للمقاتلين، فنبهه الى أن "تحرير البلاد ليس منّة يتحملها الشعب، إنه واجب علينا أن نقدمه بلا خُطب، فالتاريخ لايصنعه شخص واحد."
التاريخ بالتأكيد لا يصنعه شخص واحد، وهذه الجملة أتمنى أن يتعلمها جميع الذين يقفون على منصات الخطابة هذه الأيام، يتحدثون عن النزاهة وبناء الدولة، وعن الفرص الضائعة، وكأن الناس هي التي ضيعت هذه الفرص، وهي التي تقاسمت الكعكة، وهي التي تصر على استخدام "الكاتيوشا" في كل أزمة تمر بها إيران.
في كتاب" قصة موجزة عن المستقبل يروي لنا المفكر الفرنسي "جاك اتالي"، الذ حكايات السنين المقبلة، والمستقبل الذي ينتظر بلداناً مثل الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية، ولم ينس أن يضع معها سنغافورة وفيتنام. يقول أتالي: "هناك دول اختارت أن تحجز لها مكاناً في الصفوف الأولى من عربة المستقبل "...فيما نحن اخترنا ان نتحول الى بلاد لـ " المولات "