إياد الصالحي
لم تُشغل شخصية رياضية شرائح المجتمع العراقي بصغاره وكباره طوال ثمانية عقود من أزمان ناءت بأحمال الحروب وضنك العيش وهوَس الأجيال وتقلّبات النفوس مثلما شغلها شيخ المدربين عمو بابا المولود في 27 تشرين الثاني1934والمتوفى في 27 أيار2009، فقد عاش باسطاً يديه للناس، طالباً السلام، ومانحاً لهم قلبه المفجوع بفراق زوجته وأولاده، ومات قابضاً على تراب العراق ولم يقايضه بمليون دولار في عرضٍ مغرٍ منحته له جامعة أميركية عام 1984 لتطوير اللعبة.
ربما تمرّ ذكرى رحيله العاشرة بصمتٍ ينسج على منوال أعوام حياته الخمسة والسبعين التي عاشها منكفئاً في بيته، زاهداً في مطالبه، تاركاً لمنجزاته مع كرة الوطن تجعجع في الاوساط الشعبية والإعلامية محلياً وخليجياً وقارياً وأولمبياً.
أضاء اسم عمو بابا مقالات كبار الصحافة في كُتيبات وثقتْ علامات بارزة من مسيرته، وتوّجته مؤسسة المدى للإعلام والثقافة والفنون بلقب "اسطورة أزمان الكرة" في جلسة استذكارية أقامتها في بيتها بشارع المتنبي يوم السادس من حزيران عام2009 نقّب فيه أهل الرياضة والثقافة والفنون تاريخ عمو الكروي ومواقفه الانسانية في واحدة من أبرز مبادرات العرفان بدوره الوطني الفذ.
وعلى الصعيد الشخصي، وثّقتُ حلقة تلفازية استثنائية عن عمو بابا قبيل رحيله بسبعة أشهر حيث فاجأته بحقائق من ملف تجاربه مع المنتخبات كتم عنها زمناً طويلاً، ولم يكن أمامه غير أن يُجيب بحماسة مرة، ومحاولة المناورة مرة أخرى، والبكاء أحياناً لفرط احساسه بما واجهه من خوفٍ وقلقٍ جرّاء مسؤوليته عن مشاعر ملايين العراقيين أثناء قيادته المنتخبات.
ففي صباح تشريني من عام 2008، أجرى الزميل محمد خلف مدير قناة الرياضية العراقية آنذاك اتصالاً بي طالباً إعداد برنامج جديد يفتّش عن مكامن الحقائق لأحداث ظلّت غامضة في مسيرة نجوم الرياضة، فأقترحت عليه أن يكون اسم البرنامج (اعتراف في زمن آخر) وأن يكون عمو بابا أول ضيوفه – وكان آخرهم لعدم توافق ألتزامي بإدارة القسم الرياضي في المدى مع متطلّبات العمل التلفازي -.
بالفعل، أنجزت حلقة كاملة من مقدّمة استهلالية أجادَ في قراءتها الزميل هشام عبدالستار، وأربعة محاور هي "ضوء من الماضي" و"خلوة مع النفس" و"طيف نرجسي" و"اسماء بلا تحفّظ"، وقَدّمتْ الحلقة الزميلة المبدعة تانيا مانوئيل وأخرجها الكُفء مازن محمود، وسُجّلتْ الحلقة في بيته وعُرضتْ من جزأين يوم 27 تشرين الثاني 2008.
واستذكاراً لرحيل عمو بابا عن الدنيا والماكث في قلوبنا، أنشر ما جاء في مقدمة الحلقة:
(لكل زمان نجوم تبرق في سماء الانجاز، ولا تكلُّ من العطاء الثري بالعرق والدمع، مانحة التاريخ سرّ خلودها في حنايا قلوب الناس، قبل أن تتوارى وراء ضباب آواخر العمر، تستقطع وقتاً للراحة، ربما تعاود وهجها أو تنطفىء، لكنها في كلا الحالتين لن تموت في ذاكرة الشعوب.
ضيفنا اليوم نجم لكل الأزمنة.. خالد في كل العصور، حَملهُ العراقيون بين ضلوعهم اسماً لامعاً، وغيرة خالصة، ومعدناً وطنياً أصيلاً، لم يُبدّل لون وفائه مهما تكالبتْ عليه الظروف أو غرزت أنيابها في جسمه الوهن.
قسى المرضُ عليه، وتعرّضَ للخوف والقلق، وشبح الموت طاردهُ بعد طول أنين، لكنه ظلّ صامداً، تارة يضحك ملء شدقيه تعبيراً عن انتصاره على اليأس، وتارة أخرى تتقافز فردات من الدمع الحار على خدّيه مستذكراً دفء أسرته المفقود والتي شطرها الفراق منذ أمد بعيد، ولم يَعدْ أحد من أبنائه يُداري مشاعره عن قرب.
العراقيون وحدهم يمدّون أبو الكرة العراقية وعمّها "عمو بابا" الأمل الكبير، والصبر الجميل، ليتغلّب على معاناته، وفي الوقت نفسه مواصلة خدمة الكرة العراقية التي بقي وفياً لها منذ عام 1951حتى يومنا هذا، بعد أن زيّن صدرها بقلادة مرصّعة بأوسمة ذهب البطولات.
نصف قرن من متاعب الكرة ومكاسبها وخسائرها..لم يألُ عموبابا جهداً من أجل أن يُكلّل مهامه الصعبة بالنجاح الباهر حيث رافقته مواقف كثيرة تخلّلتها ذكريات وأحداث حان الوقت أن يبوح بأسرارها، ويفك غموضها في برنامجنا الجديد "اعتراف في زمن آخر"، فأهلاً وسهلاً بأبي سامي، نتمنّى أن تكون مبتسماً وممتلئاً بالحيوية في هذه الأمسية.
صراحة لا نعرف مصير هذه الحلقة، فقد فاجأنا مصدر مُطلع في القناة الرياضية بأنها فقدتْ مُنذ سنين، وتعذرّ عرضها في مناسبات استذكار عمو بابا !! واأسفاه.. تحافظ مؤسسات التلفزة في العالم على كنوز تسجيلات توثيقية تعود لرموز وأحداث لعشرات السنين من القرن الماضي، ونحن نضيّع مقابلة مهمة لرجل مضى على وفاته عشر سنوات فقط!!