لطفية الدليمي
ماالذي جعل السيدة (تيريزا ماي) ، رئيسة الوزراء البريطانية ، عاجزة عن مغالبة دموعها وهي تعترف بكل شجاعة بعجزها عن تقديم الخدمة المناسبة لبلادها التي تحب في هذا الظرف العصيب الذي تتأرجح فيه بريطانيا بين دوّامات النتائج الناجمة عن خروجها من الإتحاد الأوربي ؟
هل كانت السيدة (ماي) تمتحن قدراتها الإستعراضية في آخر مشهد لها وهي رئيسة وزراء بلد مهمّ وفاعل من بلدان العالم ؟
أم أنها كانت تشعر بالشفقة على ذاتها الجريحة ؟ أم كانت ترثي إمتيازاتها التي ستفقدها قريبا ؟
الحقّيقة أنّ وراء دموع ماي مأثرة ثقافية – حضارية مركّبة نفتقدها في بلدنا مثلما تفتقدها الكثير من البلدان ، ولامهرب من الاعتراف بها بوضوح فنحن لم نمارس المواطنة كفعل ثقافي ملزم في سلوكنا اليومي ، لم نشعر يوماً بأن لنا حقوقاً واجبة تقدمها الدولة ،كما لم يقم معظمنا بواجبات المواطنة المفترضة مقابل أن يحظى بتلك الحقوق.
المهاجر الذي عاش في بريطانيا وولد فيها أبناؤه نال حقوق المواطنة التي لاتقارن بما اعتاد عليه في بلاده ، ونال الجيل الجديد من أبنائه حظوظا أكبر، فقد نشأ هذا الجيل وتشكلت شخصيته وثقافته - في البيت والمدرسة والمجتمع - على أنه مواطن يمتلك حقوقأ إنسانية مكفولة، وعليه أن يجسد مفهوم مواطنته لدولة ديموقراطية راسخة في تقاليدها تقدم له الخدمات والتعليم الجيد والرعاية الطبية وتلتزم بحمايته أينما ارتحل طالما يحمل جنسية بريطانيا وجواز سفرها الذي يلزم الدول باحترام حامله.
هذه هي الحقيقة إذن : بريطانيا بلاد عظيمة بالنسبة لمواطنيها واللائذين بها برغم ماضيها الاستعماري المديد ، فقد رسخت لنفسها تراكماً حضارياً وثقافياً غنياً جعل الحياة فيها محكومة بأنساق أقرب إلى أعراف حياة راقية يتوق لها كلّ عقل متمدّن وكلّ روح حرّة متطلّعة طموح ، وتعلم (تيريزا ماي) تماماً أنّ فرصة عظيمة - هي أقرب إلى اليانصيب - قد إنفتحت أمامها لتسجّل إسمها في سجل العظماء البريطانيين وعلى كافة الصعد ، و ما دموعها سوى إعلان مشهدي مؤثر بأنها أخفقت في نيل هذا الإستحقاق ؛ إذ يعرف شعبها أنّ تأريخ بلادهم يسجّل المآثر الجليلة للأشخاص ولن يحابي أحداً ولن يقتطع من نصيب أحد لكي يضيف لنصيب آخر غير مستحق وبوسائل التدليس والتزوير الشائعة في بلادنا وبلاد عديدة سوانا .
ستغادر (تيريزا ماي) مقرّ (10 داوننغ ستريت) ولن يلحق بها رهط من الحمايات وسيارات الرولز رويس أو الجاكوار ، ولن يخصّص لها تقاعد دسم يسيل له لعاب البعض من غير البريطانيين . ستعود مواطنة بريطانية عادية ، وربما ستشغل وظيفة حكومية كما يفعل سواها : أستاذة جامعية أو موظفة في القطاع الخاص ، وربما ستنهمك بتأليف كتاب عن تجربتها المريرة مع (لبريكست) . ستغادر مكتبها -مثلما أعلنت - يوم 7 حزيران القادم من غير أن تلجأ لألاعيب القردة ومحاولة تأزيم الأمور أو دفعها نحو مسارب مغلقة ، ولن تستغل الفترة المتبقية لها في توزيع محاسيبها على رأس الهيئات الحكومية الممسكة بزمام المال والسلطة التنفيذية ؛ وأنى لها ذلك وثمة قانون وعيون تراقب الجميع وتحاسبهم - مهما علا شأنهم - فقد أصبح ذلك السلوك نسقا ثقافيا معتادا لايحيد عنه أحد.
يحقّ لِـ ( تيريزا ماي ) أن تبكي وبحرقة أعظم ممّا فعلت ؛ فقد كانت رئيسة وزراء بلاد عظيمة إسمها (بريطانيا) .