لطفية الدليمي
يحتل الزمن الماضي بكل أوهامه وأوجاعه معظم مساحات الوعي الفردي والجمعي في المجتمعات المتخلفة التي لاتدرك الزمن كتجربة وجودية، ويتمثل التشبث المرضي بالماضي في فقدان القدرة على عيش لحظة الحاضر والعمى عن تصور المستقبل،
فتتلبث تلك المجتمعات رازحة تحت وطأة حمولات الماضي الأسطورية والخرافية ، فلا تجيد التمتع بنعمة العيش وخوض التجارب المستجدة.
صحيح إن الماضي كمستوى زمني يحدد سمات الحاضر مثلما يحدد بعض رؤى المستقبل ، غير إن الحاضر المعاش وحده هو الذي يبرهن على تجربتنا الوجودية ويعيننا على استشراف المستقبل كما يمكننا من إدراك الماضي ، بمعنى آخر يمكن للمرء أن يعيش مستويات الزمن الثلاثة في لحظته الراهنة كبُرهة مكثفة واحدة لايمكن تقسيمها بنسق تتابعي، فنحن عندما نحظى ببعض سعادة في لحظتنا القائمة فإننا نتخفف بفعل ومضة السعادة تلك من عبء أوجاعنا الماضية ونأمل خيراً بما هو آتٍ من قادم الأيام .
تختلف المجتمعات المتقدمةعن المجتمعات المتخلفة في تعاملها مع معضلة الزمن، فهي إذ تعمل لتأسيس مستقبلها لا تهدر حاضرها المتدفق الذي لايمكن استعادته بل تحيا وتعمل وتنتج في مدياته وتنتفع من خبرات الماضي ولا تقدسه وتتعبد أمامه، فكأنها تمتلك الزمن بمستوياته الثلاثة ولاتدع ماضياً غابراً يهيمن على راهن عيشها.
من قرأ رواية "بيدرو بارامو" الفريدة لكاتبها الروائي المكسيكي "خوان رولفو "سيكتشف أن هذا الكاتب العظيم يتنقّل في روايته من زمن إلى آخر باستخدام رواة عديدين يبرزون بغتة في النص بلا تمهيد أو إشارة مسبقة للتحول، مما يضع القارئ إزاء متاهات متشعبة وعليه أن يتوقف برهة ليسترد أنفاسه ويواصل التوغل في غابة النص وسط تشابك الأمكنة ومستويات الزمن الملتبسة، وأذكر أن ترجمة ممتازة للرواية صدرت في بغداد عن دار المأمون في التسعينيات، عمد فيها المترجم مروان إبراهيم إلى إضافة ملحق يلي المقدمة يتضمن مخططاً وجداول بشروحات وافية لتبيان مستويات الأزمنة والأمكنة في مقاطع الرواية وزمنها الدوّامي.
تعد رواية " بيدرو بارامو " العمل الملهم الذي بشر بالواقعية السحرية في أميركا اللاتينية وتأثر بها كتاب لاتينيون كُثر في مقدمتهم ماركيز . تعامل خوان رولفو مع مفهوم الزمن بطريقة غير مسبوقة عندما مزج بين مستوياته المتعددة فكان الماضي يتقدم المستقبل بينما يكمن الحاضر مترقباً بينهما، فيغرق القارئ في دوامة تدور وتعلو وتهبط نفسه على نحو ملغز لتبرز لنا أمكنة مختلفة في زمن مختلف ، وتتصاعد وقائع الرواية المشتبكة داخل حلبة سباق متاهيّة تتنافس فيها الأصوات والتخيلات على الظهور كما تتنافس الأزمنة والموتى والأحياء..
وظفت عبقرية خوان رولفو الإبداعية الموروث الأسطوري في التعامل مع زمن بلا محددات فقد سبقت الأسطورة الدراسات النفسية التي تناولت سيكولوجية الجماهيرالمقهورة وقدمت نظريتها حول أفراد المجتمعات المتخلفة التي تعاني من اضطراب الإحساس بالزمن ومايسمى " اضطراب الديمومة "مما ينتج الفصام الفكري والانفصال التام عن الحاضر والمستقبل والتلبث في ماضٍ غابر تجتر الشعوب المتخلفة وقائعه وتتعكز على تلفيقات التاريخ حيث تجد فيها مهرباً من تحمل مسؤولية الحاضر والتأسيس للغد.
استخدم خوان رولفو في روايته معضلة الزمن الوجودي غير الممتد وجعل بطله الباحث عن والده المجهول يتيه بين غبار وأصوات ورؤى وينغمس في دوامة مدوّخة من الوقائع الحلمية فلا يبلغ حاضرا ولايمسك بمستقبل، يصاحب الموتى والكائنات الغبارية في عالم سفلي يشكّله وعيه المشوش من أدخنة ووجوه مطموسة وأصوات هامسة لشخصيات فانية يقض موتها الوهم الذي كانت تلاحقه في بحثها عما فقدت في حياتها.