طالب عبد العزيز
يكتب هاشمُ تايه، وهو فنّان تشكيليّ وشاعرٌ من الطراز الرفيع عن (معرض الحياة في المدينة) للفنان التشكيلي هاشم حنون، المغترب في كندا، فأسمع الألوان تشدو، وأشم رائحة الزيت وهي تضوع عبر المدى البعيد، وأقرأ آيات الألوان التي فرشتها لوحاتُه في المدن الجميلة،
التي نمرَّ بها، واتصفح جريدة، فأقرأ ما كتبه صديقي الشاعر جمال جمعة عن رحلة المتنبي عبر جبال الشام، مقرِناً الرحلة تلك برحلته التي ابتدأها مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والتي اخترقَ فيها الجبال والثلوج حتى منفاه الأخير، فأجدني وقد تخففتُ من سخونة الأيام المحرقات من حزيراني البصريّ.
هناك، ومن أمكنة أخرى يبعث أصدقاء لي بقصائد وحكايات وصور بما يشعرني بانَّ الحياة ممكنة في مكان ثانٍ. ويرتفع مؤشر السعادة متحدياً الضجر، فقد جاءني أحدُ الأصدقاء من بيروت بنسختين من كتابي الجديد ( من الفندق الى الحانة) وهو كتاب رحلات، صدر عن (دار المدى) قبل أسبوعين، وتبلغ سعادتي أفق كمالها إثر تسلمي نسخة بريدية من الطبعة الثانية لكتابي( تاريخ الأسى) الذي خرج أمس من مطبعة (دار الرافدين). هئنذا أسمع أغنيات باردة تبثها محطة راديو غير دينية، محاولاً بها طرد صوت بائع العتيق، الذي لا أطيقه. يبدو إننا نستطيع العيش خارج ما يخططه سفهاء السياسة في بغداد والبصرة والمدن الاخرى.
ومع أن أسعار مطعم وبار الشيراتون قائظة وحزيرانية جداً، بما يجعل الدخول لأمثالي من المتقاعدين مستحيلاً، إلا إنني سأذهب الى هناك حال تسلمي مكافأة الجريدة، سأجلس، وأقول للنادل بابتسامة واثقة: (ثنين هنكن) من فضلك، وسأصغي ملياً لصوت فرقعة العلبة وهي تزبد وتتطافح، وقد تشاء الصدف، فيتبرع أحد أصدقائي الأثرياء بدفع أثمانها، وربما يزيد من طبق المقبلات على الطاولة، لدي أصدقاء أثرياء، لكن القليل منهم يأتي الى الأمكنة باذخة الحياة، ومع ذلك عندي أمل بأن يزداد عدد فنادق الأربع نجوم، فالقطاع الخاص نشيط في البصرة، على العكس من قطاع الحكومة، الذي لم يفلح ببناء مقهى محترم للأدباء.
هناك، سعادات بسيطة وعابرة لا نلحظها، فقد استبدل أولادي مصابيح البيت العنكبوتية الكريهة، ذات النور الهالك بمصابيح جديدة، أكثر نوراً، وضوؤها أبيض حليبي. وهكذا بدت الجدران أجمل وأبهى، عندي يقين بأننا، وبمثل هذه وتلك إنما نجدد الحياة، لتصبح ممكنة. أمسكُ بالخرطوم المطاطي قبيل مغيب كل شمس حارة، وأبدأ أطشطش بالماء البارد على العشب الذابل والاشجار النحيلة، هذه الكائنات المسكينة لا تحتمل الشمس أيضاً، لذا، أحاول أن أنعشها، فهي لا تحتمل حرارة الـ 55 مئوي. تقول التقارير بأن الله لم يخلق الإنسان لكي يحيا تحت درجة الـ 50 مئوي، فالاطباء يُهرعون له إذا رتفعت درجة حرارة جسمه أكثر من 38 ذلك لأن حياته ستكون مهددة بشكل خطير.
أكتب مثل هذه، لأقول للذين يمسكون بمقاليد حياتنا، أولئك، الذين صوّروا للناس بان وجودهم على هرم الحكم، إنما تم بامر ربانيّ، مسترشدين بالحديث( كما تكونوا يولّى عليكم): تفوووو عليكم.
جميع التعليقات 1
Anonymous
الله على تلك المخيلة الخصبة التي تشرح صدورنا. سلمت لنا يا ابا أحمد.