TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تلويحة المدى: أكلني رأسي، وأكل أنفه

تلويحة المدى: أكلني رأسي، وأكل أنفه

نشر في: 17 يونيو, 2019: 07:11 م

الأفعال "الجوهرية" بصفتها محمولات للشعرية

 شاكر لعيبي

لعل من تابع أو يتابع ما نكتبه على صفحات "المدى" يستخلص أن الهدف من مراجعتنا للسان العرب يتمحور حول نقطة رئيسية تتعلق بدلالة "الشعرية"

عبر الاستخدام الاستعاريّ واسع النطاق لمفردات وأفعال المعجم، كأن هذا الاستخدام الاستعاري هو قاعدة العربية، وبالتالي لكأنّ لغة العرب تقوم على الاستعاريّ وليس الدلالة الحقيقة للمفردات. وفي ذلك ما يمنح العربية، منذ البدء طاقة تعبيرية "شعرية". نحن نعرف السجالات التقليدية بشأن "الحقيقيّ" و"المجازيّ" في لغة القرآن، ونعرف الملاحظات الحديثة التي ذهبت ببعضهم إلى القول إن لغة العرب أقل دقة من غيرها من اللغات مع ما يستتبع ذلك من نتائج في الحقل العلمي مثلاً. مثل هذا السجال ليس من طبيعة سجالنا الواقف، حصرياً تقريباً، عند تخوم الشعرية الضاربة في أصول استخدام المعجم، وعن معنى ودلالة الشعرية في اللسان العربيّ.

توقف استقصاؤنا عند الزعم أن ما أسميناه "الأفعال الجوهرية" أو الافعال الوجودية الضاربة في النشاط الإنسانيّ قد تكون بطبيعتها مُولِّدة للاستعاريّ والشعريّ، وتوقفا أمام أفعال مثل "أكل" و"شرب" وقبلهما الفعل (ضرب). وذكرنا أن الُمعترِض سيقول إن مثل هذه الأفعال وغيرها في اللغات الأخرى (وسنأخذ الفرنسية مثالاً) تتعرض لاستخدامات مجازية مماثلة. هذا صحيح.

ففي الفرنسية الفعل أكل يُستخدم مجازيًا على نحو عريض، فالتعبير "أَكَلَ الربّ الطيب":

Manger le Bon Dieu. 

يشير إلى تناول العشاء الربانيّ، وهو مستخدم في الفرنسية منذ عام 1828. والتعبير "أكل الصوف على ظهر أحدهم": 

Manger la laine sur le dos de qqn.

يشير إلى لوم الذات، عدم معرفة كيفية الدفاع عن النفس، كون الإنسان في غاية الطيبة، استغلال شخص ما والاستفادة منه، وهو مستخدم في الفرنسية منذ عام 1899. والتعبير "قد أكل أسداً":

Avoir mangé du lion. 

أي كثير الطاقة، وهو حديث نسبياً على ما يبدو. والتعبير "أكل البقرة المسعورة":

Manger de la vache enragée.

بمعنى العيش في البؤس والحرمان وهو من القرن الثامن عشر الميلادي. والتعبير "يأكل كلماته" أو "لا يمضغ كلماته": 

Manger ses mots. 

Ne pas mâcher ses mots 

الاول بمعنى يغمغم ويطمطم، والثاني يتكلم بصراحة فائقة، وهو يرقى للقرن السابع عشر الميلادي، والتعبير "أكل الأنف» أو أنفه:

Se manger le nez.

أي يصارع ويجادل وإنه في شجار، وتشجيع على القتال، وهو يعود غالباً لعام 1842. والتعبير "أكلوا بياض عيونهم":

Ils se sont mangé le blanc des yeux.

أي يتصارعون ويتجادلون وهو من عام 1760م. ثم التعبير"الأكل بالقبلات أو المداعبات [كأَكَلَها بالقبلات]:

Manger de baisers, de caresses. 

أي اللمس برقة وبطريقة حسّاسة، وهو في الغالب من عام 1853. ومثله التعبير "أكله الحسد" أو الشغف: 

Être mangé par la jalousie, la passion. 1899 ?

ولعله من عام 1899م ومؤخرا "أكل الكيلومترات":

Manger des kilomètres. 

أي نهب المسافة نهباً.

الملاحظة الأولى تتعلق بحداثة الاستخدمات الفرنسية، مقارنة بقِدَم الاستخدامات العربية التي بعضها موصول بالقرآن أي منذ القرن السادس للميلاد. 

هل اللاتينية الأولى التي تصدر عنها الفرنسية اللاحقة، خلو من الاستخدمات الاستعارية؟ كلا دون شك، لكن الشك يظل يراودنا باتساع رقعتها وطبيعتها مقارنة بخصيصتها الاستعارية اللصيقة بلغة العرب، حتى أن فرضيتنا تذهب إلى القول إن العربية لغة مجازية بالأحرى. علينا الاستعانة بقراءاتنا لما ترجم من اللاتينية، وقبلها الأغريقية من نصوص أدبية، وقراءة المتخصصين بشأن المجاز والاستعارة في الأغريقية واللاتينية لكي نقارب اتساع المجازي في المعجم العربيّ بانضباطه واحتشامه في المعجمين موضوع المقاربة.

مشروع المقاربة من الاتساع بحيث لا يمكن إلا مجموعة من الباحثين الشروع به، مما لا يُحيِّد الفرضية الحالية: العربية لغة مجازية واستعارية، الأمر الذي سمح لمفرداتها من جهة أخرى بإضاءات كبرى من جهات عدة للحقيقيّ. وهنا ثانية تقع بعض شعرية لسان العرب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram