عبدالله السكوتي مرة اخرى يثير شجوني (احميّد الفهد) الذي مافتئ يذكرني بالعهود السابقة والتي كان بعض منها يشع بالنور ، التقيته امس وهو يخاطب نفسه : لقد احتفلنا ذات يوم بعيد العمال واستمرت الاحتفالات يومين متتاليين،
كانت فيها وفود العمال التي تأتي من المحافظات تترى، وكانت النساء تعمل بجهد متميز لتقدم الطعام للمحتفلين، فاجأته قلت: متى جرى ذلك ياصديقي العزيز؟ رحب بي في البداية وقال: أتراني اصبحت احدث نفسي، سالفة هذا العامل المتميز الذي كان اول من يخط اللافتات واول المحتفلين بعيد العمال العالمي، حتى ظننت انه سيطلق على نفسه (ا آيار)، اختفى هذا الرجل عقب احتفالات عيد العمال في سنة (1974) ، لقد اعتقل لحماسه وسجن منفردا هو والجدران، فلم يستسلم وراح يخط لافتاته باستمرار، ودونما كلل او وهن، يكلم اللاشيء من حوله، ويختار المفردات وينادي بإنصاف العمال، وبقي الى مابعد سقوط الديكتاتورية، حيث اطلق من السجن لكنه للاسف راح يكلم كل شيء يمر به جمادا ام انسانا، واخذ يخط اللافتات على الجدران، فاتهم بالجنون وهو الان رهين مستشفى الرشاد، كان رجلا بارعا ؛ سياسيا من الطراز الاول ومثقفا كبيرا، خاطبته من جديد، قلت له: لم تخبرني متى احتفلتم بعيد العمال ليومين متتاليين؟ فقال: في بداية نشوء الجمهورية في (1 آيار عام 1959 ) ، كان الحماس على اوجه والايام تزهو والشعب فرح بالجمهورية الجديدة ، اما ترى الان ألم يثرك منظر العمال المحتفلين في ساحة الفردوس؟ انهم يعدون على الاصابع ، قلت له : وهذا ايضا شيء محسوب، ألم يحول صدام عمال العراق الى موظفين بقرار من مجلس قيادة الثورة يحمل الرقم 150 ؟ حيث ألغى العمل النقابي وهمش العمال تماما، قال : نعم أتذكر ذلك فانا لم اغادر العراق ولكن ما اراه الان يذكرني (بسالفة عتيكه) قلت: وماهي، فأنا متشوق الى سماع الكثير منك ، قال : يحكى ان قاضيا عين في بعض القرى، فلبث طويلا من الوقت دون ان يتقدم اليه احد من سكان القرية بدعوى قضائية، وكان القاضي قد انفق كثيرا من المال كهبات وهدايا حتى استوى في منصبه، فتفتق ذهنه في احد الايام عن حيلة رائعة حيث امر فراشه الخاص ان يستدعي كل شخص يمر من امام المحكمة، وحينما كان المارة يمثلون بين يديه كان يسألهم عما اذا كانوا دائنين او مدينين؟ او كانت لاحدهم شكوى من اي شيء ، واذا كانوا يردون عليه بالسلب ، كان يوعز الى كاتبه ان يستوفي منهم رسوما خاصة، ويزود كلا منهم بوثيقة رسمية مثبت فيها ان حاملها (لاداعي ولامندعي) ، استغربت من قصة احميّد الفهد قلت ما المغزى من هذه الحكاية؟ فقال: ( مانرى في ساحة الفردوس ) من احتفالات فقيرة وهذا يعني ان العامل وعيده اصبحا في العراق بخبر كان ، (لانهم لاداعي ولامندعي له ) ، ضحكت طويلا لاني علمت اننا نحيا بعمال البناء فقط، ولم تعد تلك الشريحة الواسعة المثقفة موجودة ، لاننا نستورد كل شيء واثرنا على القطاع الخاص الذي اقفل معامله وراح يعمل بالمستورد ؛ فهمت حكاية احميد الفهد وانا اتذكر عيد العمال الذي كان يفوق كثيرا من الاعياد الرسمية في العراق ، فهمت الحكاية وانا انظر الى صديقي الذي رسم في يوم ما (سبانة بيد عامل ) اخشى ان اقول ماذا رسم بعدها ! فهمت وانا اتشمم عرق العاملين في شتى المجالات ايام زمان ، كانت لرائحة الطين المختلط بدهن المحركات في معامل الطابوق نكهة خاصة مازالت تملأ حواسي ، وكذلك في معامل السكائر ، والزيوت النباتية ، لا اظن ان احدا يستطيع ان يصادر شريحة كبيرة ومهمة في المجتمع ، ولا اعتقد ان الذي يجري اليوم من محاولات لطمس تاريخ الشعب ستنجح بل ستبوء بالفشل كما حدث من قبل ، وسيعود العامل يحتفل ليومين او ثلاثة ايام حين يفرض ذاته في الساحة ويكون له ( داعي ومندعي ) .
هواء فـي شبك :(لاداعي ولامندعي)
نشر في: 1 مايو, 2010: 07:20 م