ستار كاووش
سألني صديق تشكيلي قائلاً (لماذا أغلب أصدقائك من الأدباء؟) فأجبته: هل تعرف ماذا يعني أن يستحوذ على عقلك شيء ما، شيء يأسرك ولا يمكنك أن تستمر بدونه؟
ليس الأدب وحده ما أعنيه، بل الادباء ذاتهم ياعزيزي، هؤلاء أصدقائي الذين أحببتهم وسأبقى أدين لهم ماحييت، لأنهم رئتي الثانية التي أتنفس بها حين يغفو باليت الرسم. لقد تربيت وإشتد عودي وسط الشعراء والقصاصين وصانعي الكلمات الجميلة، ومنذ صباي كنت أتطلع الى أصدقائي الأكبر سناً في مكتبة العباس بن الاحنف، واستعيد صورة مدرس الرسم، الروائي عبد الخالق الركابي وهو يدخل الدرس حاملاً مجموعة من الكتب، كنت أنظر اليه كما أنظر الى نصف إله، بعد إن أخفي في حقيبتي صورته المنشورة في الجريدة. وبعدها بسنوات حين كانت افتتاحات المعارض تُختَتَم في جمعية التشكيليين، كنت -بعد أن أصل هناك- استحضر ضحكات صديقي حميد قاسم فأنسل من بين الجميع وأسرع بتكسي نحو نادي اتحاد الادباء. كنت كمن يركض نحو جمعية التشكيليين، لكن قلبي في إتحاد الأدباء.
وهنا أستعيد واحدة من صور بغداد، وأتذكر لحظات إفتتاح آخر معرض لي قبل أن أسافر (قاعة الرواق 1993)، حيث أحاطني أكثر من مائة أديب أثناء الافتتاح وبعده. كنتُ قد إتصلتُ حينها بالاستاذ جبرا ابراهيم جبرا تلفونياً ودعوته للمعرض، لكنه أخبرني بأنه يمر بوعكة ويخشى عدم تمكنه من الحضور، لكن المفاجئة كانت قبل الافتتاح بدقائق حين ترجل من السيارة التي توقفت قرب القاعة صحبة الفنانة بتول الفكيكي وهو يقول بلكنته المحببة، وقد حَصَّنَ نفسه بملابس ثقيلة وشال ملون حول رقبته (لقد شعرت ببعض التحسن ولا أريد أن أفوت المعرض). بينما إنهمك حميد قاسم بتثبيت قصيدته على الواجهة الزجاجية للقاعة، والتي يقول مطلعها (كاووش، الأشجار ذبلت لأنك لم ترسمها...) وبعد دقائق إنشغل التلفزيون بالتحضير لتصوير المعرض بإدارة وتقديم الشاعر هادي ياسين لبرنامجه الاسبوعي، وهنا أنبرى يوسف الصائغ الذي كان واقفاً يتابع ذلك (ماذا تفعل؟ لماذا تصور اللوحات؟ عليك بتصوير ستار نفسه، فهو عبارة عن لوحة حية متنقلة) ليضحك الجميع ويجلب أحدهم إطاراً فارغاً من مخزن القاعة ووضعه امامي ليبدأ هادي ياسين بتصوير البرنامج. وبعد قليل تناهى صوت جواد الشكرجي الذي دخل صاخباً كالعادة وهو يصيح ( وينه كاووش) ليعبث بشعري كما يفعل دائماً. ليتقدم بعدها الفنان مؤيد نعمة نحوي بهيئته التي تشبه هيئة معلم رياضيات ويضع مازحاً شاله الملون حول رقبتي، فتبعه حميد قاسم وأديب مكي وعبد الرحيم ياسر والكثير الأصدقاء الموجودين، ليغطي رقبتي ورأسي فجأة أكثر من عشرين شالاً ملوناً وسط الاصوات المتعالية. بينما دخل محمد الجزائري قادماً من جهة (مشرب المرايا) وهو يهز رأسه ضاحكاً وهو ينظر الى جورابيَّ بلونيهما المختلفين عن بعض، وكذلك ياسين النصير الذي تداخل في حوارات مع الآخرين حول المعرض، وقد قال لي في اليوم التالي بعد أن التقينا في مجلة ألف باء (ايها الملعون، كيف إستطعت ان تجمع كل هؤلاء الادباء في معرضك؟!). أمام هذه اللوحات يقف خزعل الماجدي وعبد الستار ناصر وهاني هاني، وأمام تلك يتحدث سمير علي وفاروق سلوم، بينما حسن النواب يجوب المعرض ويسأل الحاضرين عن رأيهم لتهيئة روبرتاج صحفي، وقد أرتقى أديب مكي على أحد الكراسي ليشعل الشمعة العملاقة التي انتصبت على الطاولة وهو يقول (مو كتلك راح أجيب شمعة أطول منك)، بينما حجز منصور عبد الناصر وعلي عبد الأمير عجام وزيارة مهدي ونشأت الآلوسي أولى لوحات المعرض، ليتبعهم الآخرون وتباع كل اللوحات تقريباً.
بعد انتهاء الافتتاح توجهنا جميعاً الى اتحاد الأدباء الذي كان يبعد ربع ساعة مشياً، وهناك إمتدت الأحاديث حول المعرض، وقد وصلتني بيد النادل اوراق كتبها عبد الستار ناصر وعلي عبد الامير عجام وغيرهما، فيها نصوص قصيرة مهداة لي، في حين كانت ورقة رباح نوري هي الوحيدة التي لا تتحدث عن المعرض، بل كان يسأل فيها عن أمكانية إرسال ربع عرق إضافي له. ووسط الصخب ابتدأت لعبة الدمبلة ، وكانت الارقام تذاع بإنتظار الفائز الذي يتوجب عليه اعلان كلمة (دنبله) بصوت عالٍ، وحين وصلت اللعبة للرقم الفائز، نهض المطرب العذب كريم منصور قائلاً -بدلاً من كلمة دنبله- وبأعلى صوته (كاووووووش).
جميع التعليقات 1
Anonymous
ونحن من خلالك نتنفس عبق المحبة والعنفوان والاصالة..نحبك لان فنك صادق يدخل القلب قبل النظر فيرسم لنا صورة مشرقة جذابه بكل ماتعنيه كلمة حب.. ماجد عزيز الحبيب كاتب وشاعر واعلامي السويد