طالب عبد العزيز
ذات مرة وأثناء عشاء في شيكاغو يكشف بورخيس لـ(ويليس بارنستون)** عن ندبة في جبهته، وجعله يلمسها عند مفترق الشعر، كانت بسبب ارتطام رأسه بشيء ما.
وقتها سأله بارنستون:" ماذا فعلت عندما حدث لك ذلك؟" يقول بورخيس: ماذا تظن، اخرجت ساعتي الذهبية، نظرت إليها، وبعدما رأيت إنها ماتزال تعمل، قلت في نفسي:" لابد إني ما زلت على قيد الحياة" .
ومع أن بورخيس(1899-1985) كان يعاني من ضعف في شبكية عينيه منذ الصغر، إلا أنه فقد بصره بالكامل في العام 1968 هذا الذي ظل بذاكرة فريدة، ويحفظ عن ظهر قلب مئات العناوين والقصائد والقصص، كنا سنفقد نصف ثروته الأدبية لو لم تقيّض له الظروف من يلازمه الى أخر أيامه. لا أعرف لماذا لم تقفز الى ذاكرتي الأيام والساعات التي أمضيناها صحبة أحد أشباهه، وشهدَ بعضُنا جانباً من حياته ومعاناته وغربته في البيت والوظيفة والشعر والفكر. هل فكرنا بتدوين ما كان يقوله لنا؟ هل تتبعنا خطواته في المدينة التي يحبّها ولم يغادرها إلا قليلاً، ثم هل يجرؤ واحد بيننا، نحن أصدقاءه القدامى، من المثقفين وأشباههم على كتابة جانب من ذلك ؟ شخصياً، لا أبرّئُ نفسي من التقصير، مع يقيني بصعوبة كتابة وقائع حياته العميقة.
كنت في مادة سابقة قد تحدثت عن جملة ما نخسره بسبب ما في تركيبتنا الاجتماعية- الدينية-المذهبية، فالغلو بالإنتماء الى القبيلة، والتشدّد الزائد في الدفاع عن الدين والطائفة والمذهب وسواها أخرجتنا من كينونتنا. كل شيء لدينا بات مقدساً( الحزب والمدينة والطائفة والقبيلة والمذهب و) هذه القداسة التي لا يمكننا تعريفها بالمطلق، الكلمة العائمة جداً، تأخذ من جرف معرفتنا الكثير، تتحكم في فهمنا وتعيق تطورنا وتتسبب في حروبنا مع بعضنا ومع محيطنا الداخلي. هناك من يريد ان يحاول اضفاء صفة القداسة على مدينة مثل البصرة، نعم، هي مقدسة في روحي أنا أيضاً، لكنَّ قدسيتها عندي مختلفة تماما عن قدسية هؤلاء. حين يكون التقديس حرمانا من تناول الوقائع كاملة، بحسنها وقبيحها نكون قد فقدنا من المعرفة والحكمة أشياء كثيرة.
أسرني أحدُ الذين عاصروا السياب بأنه كتب مطولته(المومس العمياء) عقب دخوله لمنزل البغايا في الميدان، ببغداد، وأنه كان برفقته الى هناك ذات يوم. لكنني، لما قرأتها وجدتُ أنَّ السيّاب ذهب الى تغليف بعض أبياتها بالأسطورة اليونانية والمصرية، فيما ظلت القصيدة تشي بالكثير الدال على ذهابه الى هناك. ربما ستغضب أسرة السياب حقيقة مثل هذه.
كنا سنجيب على الأسئلة الكبيرة التي تركها بيننا شاعر آخر، مات في البصرة قبل سنوات، كان شاعراً كونياً، نثر أسئلة مفصلية عن حياته في قصائد كثيرة له، لكننا، سنكون مضطرين للصمت عنها، إذ قد لا تمنحنا أجابتنا عنها حق الحياة بعدها. ما أسرّهُ الشاعر هذا وغيره في قصائد لهم لا يقل شأنا عن كثير مما كتبه بورخيس. ذات يوم سيأتي أحدهم ليحدثنا عن أكثر من طعنة في صدر شاعر، آنذاك، لن تكون الندبة التي في جبين بورخيس أكثر من تذكير بساعته الذهبية التي تشير الى أنه ما زال على قيد الحياة.
** كتاب ويليس بارنستون(مع بورخيس. مساء عادي في بيونس آيرس) بترجمة عابد اسماعيل ومن إصدارات دار المدى.