بعد عشرات العهود الاستبدادية التي ظلت تعيد انتاج نفسها، انهار صدام حسين الذي طور وكثف التجربة التاريخية المتراكمة لكل عهود القهر والعبودية والاستبداد.
لقد استطاع عبر ثلاثة عقود ونيف، قهر شعبنا ومصادرة حرياته وتهميش دوره وانتزاع روحه وانسانيته وجرد بلادنا من استقلال وسيادتها، وكبلها بعشرات القيود، وأكثرها وطأت، تلك التي تمثلت بالحصار، والنتائج الكارثية للحروب العبثية، من تبديد الثروات، وتخريب نسيج المجتمع، وتعطيل طاقة مئات الآلاف من المعاقين والمشوهين، وإبادة مئات الآلاف من المواطنين وطمرهم في مقابر جماعية في انحاء البلاد.
ومع السقوط المدوّي انهارت الدولة (نفسها) التي يبدو انها تحولت مع تعاقب الانظمة الدكتاتورية إلى دولة للقهر والعسف والالغاء، بعد ان تمثلت من بين كل صفات ووظائف الدولة، تلك التي كرستها عهود التوحش وعصور الظلام، التي تفننت في استعباد الانسان وشياته، وانتزعت روحه واخضعته لمشيئتها المطلقة. لقد انهار التوأمان، النظام والدولة، بطريقة دراماتيكية وتحولتا إلى مجرد خردة وقمامة متناثرة على قارعة الطريق! ان الاندماج الشديد بين الدولة والسلطة المستبدة واختزال وظائفهما، إلى اختراع وتجديد وسائل جهنمية لتصفية أي شكل للإرادة، اخضع البلاد بشراً وثروات ومؤسسات إلى اقطاع خاص للجلاد وعائلته وزبانيته، وافراغ الوطن من كل قيمه السامية، وشل الطاقة الخلاقة لقواه الحية، وحال دون الشعب، وتحطيم قيوده وفك أسره، باسقاط الدكتاتورية. وقد تحول العامل الخارجي إلى عامل حاسم نتيجة لذلك، فضلاً عن الحروب العبثية التي خاضتها الدكتاتورية ضد الشعب من الداخل: حلبجة الشهيدة، والجنوب المغدور، وفي الخارج ضد الجارتين ايران والكويت، في محاولة لتصريف الأزمة الخانقة التي حاصرتها. ان الاصرار على الحفاظ على السلطة بأي ثمن، اغرق البلاد بدماء خيرة ابنائه عبر التصفيات الجسدية التي شملت جميع القوى والاحزاب الوطنية والقومية والاسلامية. وكبلت سيادة البلاد واستقلالها واثقلتها بالالتزامات والديون المرهقة وتسبب في فرض واستمرار حصار جائر وعزلة خانقة حول الشعب. ان ترجيح دور العامل الخارجي، خصوصاً لمصلحة الولايات المتحدة، على حساب العامل الداخلي، لم يكن بمعزل عن التواطئ ودعم الاوساط العربية والاقليمية والدولية وعلى نحو خاص الولايات المتحدة، مع صدام حسين في مراحل مختلفة، بدءاً من اتفاقية الجزائر اواسط السبعينيات مع شاه ايران، ومروراً بالحرب العراقية الايرانية، التي توجت باجهاض انتفاضة آذار الباسلة عام 1991 لقد اندلعت الحرب الثالثة، بخيار من جورج بوش انطلاقاً من الستراتيجية الكونية للإدارة الاميركية: وخيار صدام حسين الذي أصر، كالعادة، على التضحية بالعراق وشعبه وبالامة العربية ومصائرها دفاعاً عن حكمه المطلق. وجاء اسقاط الدكتاتورية "لحظة التوافق" الوحيدة في سياق الحرب، لصالح الشعب العراقي، انتهى بتكريس الاحتلال وسلطته بقرار مجلس الأمن، والذي رهن إرادة الشعب من جديد. ان "لحظة التوافق" اسقطت الدكتاتورية، وكرست سلطة الاحتلال، وهي بذلك وضعت أمام الحركة الوطنية العراقية مهمة استرجاع السيادة المنقوصة واستعادة الاستقلال الوطني، وارساء الاسس الكفيلة بتعجيل انهاء المرحلة الانتقالية، بدءاً من ابسط المتطلبات اليومية التي تعيد الامن والاستقرار وصولاً إلى انتزاع السلطة المطلقة لحكم البلاد وانهاء الاحتلال. والمرحلة الانتقالية، تبدأ ولا بد أن تتوج بصياغة الدستور والتمهيد لاجراء الانتخابات وانطلاقاً من التأكيد والالتزام بنظام ديمقراطي تعددي تداولي فيدرالي، بعيداً عن أي نظام شمولي، اياً كانت منطلقاته أو اهدافه، بما يؤدي إلى بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة. في هذه اللحظة المعقدة والمتشابكة والمفتوحة على كل الاحتمالات تصدر (المدى) جريدة يومية سياسية مستقلة وتعد نفسها منبراً للديمقراطية والحرية، وأداة لتحفيز واستنهاض القوى الخلاقة في المجتمع العراقي لانجاز مهام الاستقلال الوطني والانتقال إلى رحاب الديمقراطية. ان بلوغ هذا الهدف يستلزم بذل اقصى الجهود لتحقيق المطالب الآنية للمواطنين التي تؤمّن لهم الأمن والاستقرار ووسائل العيش وحفظ الكرمة الشخصية وتوفير الخدمات الاساسية من ماء وكهرباء ومواصلات واتصالات، كما يتطلب البدء بتفعيل مؤسسات الدولة واعادة بناء ركائزها ومؤسساتها ومرافقها باشراك جميع القوى الشعبية للقيام بمتطلبات هذه المهمات. ان مثل هذه المهام والخطوات، على طريق استرجاع مصادر السلطة، سواء تمثلت في أدنى مستويات المسؤولية المتعلقة بإعادة تشغيل مفاصل الحياة اليومية، وارتقاء بأخذ زمام السيطرة على شؤون الامن وتسيير الشؤون اليومية للمواطنين، وتعزيز صلاحيات الهيئات والوزارات القيادية التي تتولى انجاز المرحلة الانتقالية، انما هي خطوات على طريق استعادة السيادة والاستقلال وحرية الوطن. اذ تصدر اليوم، تؤكد التزامها المطلق بقضايا الشعب والوطن، والنهوض بمسؤولياتها لتعبئة القوى والارتقاء بمستوى استعداد الشعب للعمل معاً بغية اخراج البلاد من الأزمة الراهنة، وإنهاء المرحلة الانتقالية، وتصفية مخلفات النظام المقبور وسلطة الاحتلال التي تمخضت عنه، والانتقال إلى مرحلة الاحتكام إلى إرادة الشعب، عبر دستور وطني، وانتخابات ديمقراطية حرة، يحولان دون إعادة أي شكل للانظمة الشمولية. وستسهم (المدى) مع الجهد العام في معافاة العراق الديمقراطي الجديد، واستعادة مكانته ودوره في محيطه العربي والاقليمي والدولي، وإقامة افضل العلاقات مع اشقائه وجيرانه وتأمين مواجهة التحديات الحضارية لعصرنا. ستكون (المدى).. صوتاً ديمقراطياً حراً، مشرع الأبواب امام التيارات السياسية والفكرية، الخلاقة، والآراء والافكار التي من شأنها تطوير البلاد باتجاه الديمقراطية وتحرير الانسان العراقي، والتعامل باحترام وتفاعل مع جميع الآراء والافكار..