فخري كريم
على وقع الجرائم التي تقترفها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة نشرت (المدى) قبل مدة افتتاحية تحدثت عن دور اسرائيل في اعاقة التطور الديمقراطي في البلدان العربية،
ان هذا الدور المشؤوم الذي لم ينتبه اليه الاسلاميون، واهمله القوميون من قبلهم، بسبب معاداتهما للديمقراطية، ادركه الديمقراطيون والليبراليون العرب داخل محنتهم الدائمة. نعم... تلك الحقيقة وليس سراً أو لغزاً، وبسبب الحالة اللاديمقراطية التي عاشها ويعيشها العرب، لم تظهر قضية الديمقراطية في معادلة الصراع العربي الاسرائيلي الا بوصفها مؤامرة، ولم تستطع الانظمة العربية ولا القوى القومية والاسلامية ان تستوعب ان بامكان الديمقراطية ان تعيد ميزان القوى في ذلك الصراع بيد الشعب.لقد فهمت الديمقراطية دائما من الانظمة العربية او من القوى اللاديمقراطية بوصفها وصفة غربية في نسيان يقترب من العماء، ان تشكيلات الانظمة العربية هي في الاصل وصفة غربية.
وبدلا من التمعن في المثال الذي تقدمه الحياة الشعبية في الغرب من قدرة على التغيير والتعبير والحصول على المكاسب، راحت القوى اللاديمقراطية في المنطقة العربية تسهم مع الانظمة العربية في تمرير سياسات وخلق اوضاع تضعف العرب أمام اسرائيل.
لقد عرف الديمقراطيون والليبراليون العرب قبل الجميع ان انعدام الديمقراطية في الدول العربية هو الذي قوى اسرائيل على العرب، وكان سر تنمرها وغطرستها. ولانها لا تخاف من دول سحقت شعوبها وحولتها إلى عبيد، عمدت إلى ابقاء القضية الفلسطينية من دون حل، وامدت الدكتاتوريات العربية بمسوغات البقاء، وساعدت على اغراق الحياة العربية في ظروف استثنائية دائمة، غاب فيها القانون وتحولت فيها الدولة الى عدو للمجتمع.
لقد جاء تشخيص (المدى) هذا في وقت كان المشروع الامريكي القاضي بنشر الديمقراطية في المنطقة العربية تتضح معالمه، اما اليوم فقد بات يمارس حضوره وضغوطه وحظي باسم بات معروفا: مشروع الشرق الاوسط الكبير.
نعرف ان القادة العرب الذين اخذوا علما بالمشروع طولبوا بأن، يحزموا امرهم وان يتبنوا مشروعا ما سواء باسم الاصلاح او باسم الديمقراطية عدوتهم التقليدية، لكن الشروط السياسية في المنطقة هي من السوء بحيث لا يمكن ان نتوقع غير الاحالة إلى هذه الشروط مع تبريرات أخرى، هكذا هو الحال دائما في الحياة العربية. لقد كانوا دائما يحتاجون إلى ظروف استثنائية لكي يحزموا امرهم ثم لا يحزمون امرهم بسبب هذه الظروف نفسها.
لكن دعونا ندقق في الامر جيدا، فالقادة العرب محاصرون اليوم بالضغوط الامريكية والاستهتار الاسرائيلي والضغط الشعبي. فما الذي نتوقع منهم ان يفعلوا؟ لا شيء. واذا كان ثمة شيء يفعلونه في هذا الحصار فلن يكون ابداً تحقيق الاصلاح بل تقديم بيانات عن العقبات التي تعترض الاصلاح، وفي ما يتعلق بالمشروع الامريكي فإن التحفظات العربية عليه سوف تتماهى مع التحفظات على الديمقراطية بوجه عام دون ان تبدو انها كذلك، والتحفظات الاولى منطقية على اية حال لكنها في الاصل تستوعب المأزق الامريكي الحالي، فاحتلال العراق لم يعد شعبياً في امريكا، وفي اوروبا يراهن عليه ككارثة، والدليل ما حدث في اسبانيا.
ان القادة العرب يستطيعون ان يتكئوا على حصتهم في النظام الدولي وتوازناته لاثارة الخلل في المشروع الامريكي وبدعم اوروبي، هذا على المستوى الدولي، اما داخلياً فقد اعلنت التحفظات بوضوح بصفة تصورات سياسية لن تبدو ابدا تبريرات ضد الديمقراطية، فهناك مثلا مسألة هوية النظام العربي، التي بقدر ما هي غامضة تبدو قابلة للتصديق حيث يتساوى فيها الملوك والرؤساء مع قادة الاحزاب القومية والاسلامية. فضمن مستوياتها الواضحة تتطابق فيها بالفكر والنيات وحدهما قضايا استقلال الدول العربية بالهوية العربية والاسلامية ذات التأريخ العريق، ومثل هذه الهوية تؤكد مرجعياتها الخاصة على القضايا الجوهرية كافة ولا سيما قضية الديمقراطية التي تبدو اذا ما اوصلنا التحليل إلى النهاية، غريبة عن الهوية، او في الاقل تحتاج إلى وقت لكي تتماثل معها.
(من قال ان العرب لا يحسنون التفكير؟).
الغريب ان مناضلين قوميين يحسنون فكرة النظام العربي بهذا المنظور بصفته حدا من حدود التراضي والوحدة المطلوبين في الحالة العربية المأزومة ومن دون ان يحللوا الجانب التبريري فيه الذي يدعم انظمة لم تعد لها هوية معاصرة وسلمت الجميع إلى الاحتلال والاغتصاب.
ام ما يتمم فكرة النظام العربي القول الذي تردد كثيرا في هذه الايام من بعض القادة العرب كون الديمقراطية لا تفرض من الخارج بل تأتي من الداخل، أي من داخل هذا النظام ومصلحته في البقاء، والملاحظ ان فكرة النظام العربي تغطي على حقيقة وجود دول واقعية في غاية (القطرية) بالمعنى القومي للكلمة، اما فكرة مجيء الديمقراطية من الداخل فتغطي على التسويف الذي جربناه طويلا، لكن دعونا نرى كيف ان فكرتين غير متماثلتين ستتصلان بالاوضاع المحسوسة في الحياة العربية وأولاها المشكلة الفلسطينية بوصفها مشكلة العرب والمسلمين الكبرى، والمشكلة التي ظلت بلا حل.
ان القادة العرب سوف يطرحون هذه المشكلة بالذات امام المشروع الامريكي حول الديمقراطية، وعند هذه النقطة سوف يتفق الجميع، وهم محقون قطعا ازاء مشروع اجنبي ولكنهم غير محقين ابداً ازاء شعوبهم.
المشروع الامريكي الذي تأخر كثيرا والذي لم يأت الا على خلفية مكافحة الارهاب واحتلال العراق يبدو في لعبة الموازين الاقليمية من دون مقابل.
ان اسم اسرائيل سوف يظهر في هذه النقطة جلياً وواضحاً، ها هم القادة العرب يقولون للامريكان: حسناً... انتم تحرجوننا، فدباباكم تسير في شوارع بغداد، والفوضى ضاربة اطنابها، واسرائيل تفعل ما تشاء، وخارطة الطريق ضيعت الطريق، وانتم الادلاء كما يفترض تسهمون في ضياعها، ساعدونا في حل القضية الفلسطينية.
كل شيء في هذا المنطق صحيح. ان الديمقراطية هي اليوم موضع مساومة وامريكا التي طالما ساندت الدكتاتوريات في المنطقة، كما ساندت اسرائيل، لا تستطيع ببساطة ان تجعل من هذه المساومة قليلة التكاليف.
هل هي مصادفة ان وزراء الخارجية العرب اجتمعوا وجريمة اغتيال الشيخ احمد ياسين ما زالت تضغط في الشوارع العربية؟ ان اسرائيل قدمت للقادة العرب حججا اضافية ضد الديمقراطية وحطت منها إلى مستوى المساومات وكانت واحدة من اكثر اطرافها انحطاطا انها تقدم يوميا امثلة مجرمة على عنف الدولة المحتلة بما يثير العنف المضاد ويقدم للجماعات الارهابية زادها الحقيقي.
والان، حتى اذا اختزل القادة العرب الديمقراطية إلى مشروع اصلاح سياسي ضيق او شعروا بضرورته فإن الشروط السياسية الفعلية في المنطقة، قادرة على رده إلى مستويات ستراتيجية تجريدية او تجعل منه مهزلة، ثمة تساند موضوعي اضحى مستقلا من حيث القوة في الظل، بين ما يفعله القادة العرب في السر وما تفعله اسرائيل في وضح النهار، لقد امدت اسرائيل الحكام العرب بالاسباب التي تجعل من الديمقراطية قضية مشبوهة في الوطن العربي، انها ليست معنية بأن يعيش العرب في انظمة ديمقراطية قوية، بل معنية من ان تراهم في مطحنة الدكتاتوريات والتخلف، مستلبي الارادة، متناحرين حتى لو تلقت منهم بضعة صواريخ لا تؤذيها ولا تحل القضية الفلسطينية، كما حدث في حرب عام 1991.
تفضل اسرائيل حكاما يخافون من شعوبهم ويعيدون انتاج مخاوف زائفة منها، بما يمنحهم المسوغات والتبريرات لابقاء شعوبهم في حالة استثنائية دائمة باسم الصراع العربي الاسرائيلي.
ان من يمعن النظر في التحالف الاسرائيلي الامريكي، القديم جدا، والذي لم يتغير قيد انملة، وتقوى على خلفية مكافحة الارهاب، يرى بوضوح تأثيراته القاتلة لاي انفراج ديمقراطي في الحياة العربية. لقد شكل هذا التحالف قاعدة تحطمت عليها جميع تطلعات الديمقراطيين العرب، وكان جزءا فعالا من سياسة تبرير الممارسات اللاديمقراطية للحكام العرب، وقوى الظواهر الفاشية والارهاب والعسكرة في الحياة العربية كلها، فكيف سيكون مصير مشروع الشرق الاوسط الكبير في حالة مثل هذه؟
اذا انطلقنا من حدث قريب، وهو اغتيال احمد ياسين والموقف الامريكي السلبي منه، لوجدنا ان هذا التحالف ما زال مستقراً على الثوابت ومن جهة الديناميكية السياسية العربية، ولا سيما المرتبطة بالشارع العربي يسهم هذا التحالف في زيادة العنف ونشر الارهاب.
ان امريكا تحرج العرب، وتحرج اصدقاءها من دون ان تقدم لهم شيئاً وهي في النهاية لا تتخذ موقفاً ديمقراطيا في الصراع العربي الاسرائيلي، اما في الاراضي المحتلة، فإن موقفها المساند لإرهابي مثل شارون يجعل منها عنصراً غير عادل لا يعول عليه ولا يمكن الوثوق به.
ما الذي حدث في اغتيال احمد ياسين؟ انه اغتيال قذر، علني متبجح وينتهي بتهنئة المنفذين بما يليق بالنازيين المتغطرسين. وماذا فعلت امريكا؟ حاولت جهدها لمنع عقاب اسرائيل ازاء استنكار دولي كامل، والحال ثمة تحميلات أخرى في هذا الحدث، لقد كان النظام العراقي المقبور حين يغتال المواطنين العراقيين لا يعلن ذلك ولا يتباهى، فدولته السرية تفعل كل شيء بصمت، اما اسرائيل فهي تتفاخر. لا نعتقد بوجود اختلاف في الممارسات الفاشية سواء كانت سرية او علنية لكن هذه العلنية الاسرائيلية لها دلالة، فاسرائيل تختفي وراء شعار مكافحة الارهاب الامريكي بعربدة السكيرين، بينما امريكا تحافظ على تجريدات هذا الشعار على نحو تحول إلى شكل من اشكال عنف الدولة، ان التجريد في المواقف السياسية هو لب العنف، فبدلا من ان يفضي إلى تحليل المشكلات الاساسية في السياسة والاقتصاد والثقافة يصبح معبراً لتبرير كل شيء.
لسنا ممن يعتقدون بأن اسرائيل وامريكا هما شيء واحد وان السياسة في الثانية تتقرر في الاولى حسب بعض المزاعم، الا ان مشكلة امريكا انها ما زالت تعيش في منطق الحرب الباردة، ولا تستطيع ان تعترف ايضا بان النتائج الحاصلة في المنطقة هي من صنع ايديها بامتياز، بما في ذلك المستوى المتدني للحريات الديمقراطية، بموازاة المستوى المهلهل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية انها مأخوذة بتفكير ستراتيجي خاص بمفهوم القوة وليس تحليل صيرورات واقعية، انه تفكير تجريدي له عواقبه، واقرب هذه العواقب اثارة انشقاق عالمي ومن ثم معالجته بالقوة.
وبمقاربة هذا التفكير في مستوى علاقاتها باسرائيل نجد ان الاخيرة اضافت اعباء هائلة عليها في المنطقة العربية فقد احرجتها وعزلتها، واستثمرتها وجعلت سمعتها تصل إلى الحضيض في حين ظلت امريكا تتعامل مع النتائج ليس الا وذلك بمواصلة سياسة تجريدية لا تعترف بالصح والخطـأ، ناهيكم عن العدالة.
هل يمكن الاستنتاج ان امريكا لا تعرف كل هذا؟ من الغريب ان لا تعرف... لكن اذا لم تعرف حقاً... فما الذي جعلها في مواقع عمياء غير تفكيرها الستراتيجي القائم على القوة المجردة، وشهية المصالح بالتأكيد لكن المهددة دائماً.؟
دعونا نعود إلى مسرح جريمة اغتيال احمد ياسين، فهو مسرح اختباري لاهداف اسرائيلية عديدة وليس هدفا واحدا كما اعتقد الكثيرون. المحللون يجمعون على ان اسرائيل ارادت الخروج من غزة فكان عليها ان تضرب هذه الضربة الموجعة، اذا افترضنا ان هذا صحيح فعلينا ان لانتوقف عند هذا الحد، لان الجريمة لن تتوقف عند الخروج من غزة ما دامت قد حولت هذا المكان إلى مشروع انتقام دائم، في ما عدا ذلك سيكون على السلطة الفلسطينية ان تعالج موقفها الضعيف داخل هياج شعبي كامل، فجريمة اسرائيل ضد حماس ستعزز حماس، وغزة المعزولة سوف تحتدم من الداخل وقد تحارب نفسها، ان دائرة العنف سوف تتسع... ومشروع الشرق الاوسط الكبير لا مكان له في هذه الدائرة.
لا تريد اسرائيل ان تشهد ولادة الديمقراطية على الارض العربية، لانها تعرف ان الديمقراطية تصنع شعباً حراً وافرادا اقوياء متحررين من الخوف، والحكام العرب لا يريدون الديمقراطية لانهم يخافون على انظمتهم البالية، اسرائيل تقدم التبرير والحكام العرب يقودونه إلى النهاية. فما الذي نستخلصه من هذه الدورة المشؤومة.
دعونا نقول لانفسنا: نعم... لا نريد ان تفرض علينا الديمقراطية من الخارج.. لكن دعونا نفرضها من الداخل، وباحترام شديد، من دون العاب، وردود افعال، ومساومات، وتحرجات فهذا الطريق وحده يجعل من مجتمعاتنا قوية في الحرب والسلام، وقبل كل شيء في النمو الحر والسيادة وعزة العرب والاسلام