ستار كاووش
ونحن نقطع الأمتار الأخيرة من جسر الشهداء، بانَ موقف السيارات الذي شغل مساحة مترامية الأطراف، تستقر فيها مئات السيارات التي انكشفت تحت أشعة الشمس اللاهبة،
وبدت مثل لُعَب أطفال من على سطح أحد البيوت. توقفت قائلاً لصديقي صبيح عفوان وأنا أشير وكأني أرسم دائرة بإصبعي: هذا هو المكان الذي رسمته أكثر من مرّة في اللوحات التي شاهدتَها، وستكون ضمن معرضي الجديد. وبشخصيته التي تشبه شخصية كوستر بطل رواية (الرفاق الثلاثة) لريمارك، بكل اندفاعه ومبادراته وثقته وحضوره الأخاذ، قال صبيح بعد أن ثَبَّتَ سيجارته بين أسنانه وهو ينظر الى موقف السيارات، كمن عثر على شيء مهم (جسد المدينة، نعم... هذا سيكون عنوان المعرض)، كنا قبلها بقليل قد جلسنا في مشرب صغير بإنعطافة ساحة الميدان نحو شارع الرشيد قرب فندق الصياد، وهناك انشغلنا بالتفكير بعنوان مناسب لمعرضي الجديد دون التوصل الى نتيجة.
وهكذا بدأت التحضيرات لجسد المدينة الذي أُفتتحِ بمركز الفنون في بغداد سنة ١٩٩١، وكانت أغلب لوحات المعرض بحجم مترين في مترين، وقتها كنت منشغلاً بلوحة (الرصيف) التي انتهيت منها قبيل الأفتتاح، لتأخذ مكانها في اللحظات الأخيرة بين لوحات المعرض، وقد استغرق العمل فيها شهرين متواصلين بسبب تكوينها الغريب وحجمها غير التقليدي. كان إرتفاعها ثمانين سنتمتراً بينما امتدادها الأفقي عشرة أمتار، وأثناء رسمي لها كنتُ أرى الأشكال والتفاصيل تنبثق أمامي بوضوح وعفوية، وكأني أمسك كاميرا سينمائية وأصور الرصيف، حيث تظهر أقدام الناس وسيقانهم وتفاصيل ومفردات الحياة علـى أحد أرصفة بغداد، وقد رسمت هذه اللوحة في فناء البيت، لعدم وجود مرسم يتسع لهذا الحجم من اللوحات، ثم جاءت عملية نقلها الـى قاعة المعرض، وهنا كان عليَّ تجزئتها الى خمسة أجزاء بعرض مترين للجزء الواحد لتسهيل المهمة، على أن يتم ربطها في قاعة العرض، وهناك حين رآها أبا خالد المختص والخبير بترتيب وتعليق لوحات المعارض قال (ماهذا؟ لم أعلق في حياتي لوحة بهذا الحجم. لخاطر الله ستار شلون رسمتها؟!).
إستخدمتُ في لوحات هذا المعرض -إضافة الـى الألوان الزيتية- كولاجات من قطع ملابسي وقفازاتي وجواربي وحتى علب السجائر التي كنت انتهي منها أثناء الرسم، لتأخذ سطوح اللوحات هيئة تضاريس وعجائن من الألوان الممزوجة مع هذه المواد الغريبة، محاولاً بذلك إيجاد مرادفاً تشكيلياً للشارع بناسه وزحامه وضجيجه ومفرداته من إعلانات وأضوية ملونة وسيارات وواجهات محال، الشارع وقتها كان أسطورتي التشكيلية التي مدتني بطاقة كبيرة سواء كان ذلك في الرسم أو الحياة.
قبل الافتتاح بقليل كنت أهم بالدخول حين تناهي الـى سمعي صوت الفنان عامر العبيدي -الذي كان له دور كبير في دعم هذا المعرض واقامته- وهو يجيب أحد الاشخاص حول امكانية حضور جمهور جيد (جمهور؟ لا تخشـى ذلك، فأصدقاء ستار من الادباء سيملؤون قاعتين وليس قاعة واحدة)، قال ذلك وسط ضحك الجميع. وأثناء الافتتاح إقترب مني الفنان اسماعيل فتاح بعد أن حجز ثلاث لوحات كبيرة، متسائلاً وإبتسامته المميزة تطغي على كل ملامحه (هل بإمكانك في المستقبل أن ترسم أهم من هذا المعرض؟) ضحكت ولم أعرف بماذا أجيبه، لأن همي الوحيد وقتها هو أن أستمر بالرسم على أي سطح يقابلني. في حين وقف جبرا إبراهيم جبرا وسط القاعة محدثاً بعض الفنانين ( يذكرني ستار برسامي الكهوف حين كانوا يرسمون الحيوانات ليسيطروا عليها) ثم أردف مازحاً (أنا متأكد بأنه سيكف عن رسم السيارات حين يمتلك سيارة جميلة).
ورغم ما قِيلَ وكُتِبَ وما تركه المعرض من انطباعات رائعة، لكن أجمل ما سمعته كان عند عودتي الى البيت مساءً بعد الافتتاح، حيث كانت أمي تنتظرني بقلق على باب الدار، وحين إقتربت منها، نظرت في وجهي، لتسألني بلهفة (ها يُمه بشرني شلونه كان المعرض؟).