فخري كريم
قد لا يعرف البعض كم تردد مسعود البارزاني ، وأثار من نقاشات ، ومال الى الرفض ، قبل ان يرضخ لخيار القبول .
وكنت شخصياً ولاعتبارات اتركها للتاريخ متعاطفا مع تمنعه وحاولت لفترة وجيزة تحويل تردده الى قرار .
كان يرى من اسباب تردده ان يلتبس الامر على مواطني كردستان اولاً ثم الاوساط السياسية المتعاطفة مع الاماني القومية للشعب الكردي، فيبدو قبول رئاسة الإقليم ، او ما أشيع حولها ، اختزالا للهدف الذي كرس نفسه له ، او يقبل بها تعويضاً عن تاريخ امتد دهراً لا يقاس بالعقود والسنوات ، تراكمت عبرها التضحيات والآلام والمحن ، ولم يبق في سجلها فراغ لمأثرة لم تبذل ، او مشروع شهيد او مقبرة جماعية ، او أنفال اوابادة بالكيمياوي او مجازر وتصفيات وغدر ..
لقد تردد لكي لا تسجل الرئاسة عليه كامتياز شخصي واحتمال ان تثير أي قدر من الالتباس ، ناهيك عن ان تغطي على مشهد المسيرة التاريخية للبطولات والامجاد والمآثر والتضحيات ، وفيها قامات واقدار شمخت كما جبال كردستان ...
لكن مصدر القلق والتردد كان يبدو من وجهة اخرى كما قيل له نكوصاً وتراجعا عن المواكبة والالتزام بل وتنازلا مخلا لهواجس شخصية على حساب قدر الشعب ومصائر قضيته ..
فما يتحقق لا يشكل الجانب الشخصي فيه سوى تعويض معنوي ، او اقرار بمنزلة ودور ، في حين ان العام فيه يشكل نقلة نوعية في اتجاه تحديد وتعميق ملامح العراق الجديد ، وتكريس جانب مهم وركن اساسي من بنائه لا يمكن ان يستقيم بدونه ارساء اسس النظام الديمقراطي الفيدرالي التعددي .
وهي خطوة من شانها استكمال البنية المؤسساتيه القانونية لقيادة اقليم كردستان واستحقاق مؤجل بفعل ظروف طارئة تهيأت لها شروط الانجاز وجوهرها الكامن ليتجسد في نضوج الظروف الموضوعية والذاتية التي تفاعلت معا منذ انتصار انتفاضة اذار مرورا باول انتخابات ديمقراطية في كردستان المحررة من أسر الديكتاتورية وصولا الى اسقاطها .
وما يتحقق انما هو تكريس لفدرالية كردستان تحت سقف برلمان منتخب في اطار انتخابات ديمقراطية للعراق كله، وهو بهذا انجاز عراقي بامتياز وتعبير عن ارادة عراقية مشتركة لكل القوى و الاحزاب ومكونات الطيف الوطني ، انجاز للعرب والكرد والتركمان والكلدو اشوريين . ومثل هذا الانجاز وبمثل هذا الالتفاف الوطني عصي على من يتوهم النيل منه اواستهدافه .
ان الاقرار باهمية تكريس فدرالية كردستان وهو ما يعكسه التمثيل الواسع للقيادات والرموز العراقية التي تشارك اليوم في مراسيم قسم اقليم كردستان يجسد الارادة الوطنية بالمضي قدما في بناء العراق الجديد .. العراق الديمقراطي التعددي الاتحادي .
كل ذلك وماانطوى عليه من منطق سياسي عجّل في قبول البارزاني للمسؤولية، جامعا بذلك العبر والدروس والمواثيق والعهود ..ورصيد التجربة التاريخية ..
ويبقى عليه ان يحول ذلك كله الى حركة في واقع كردستان يتحسسه كل مواطن ايا كان انتماؤه او خياره. يبقى بعد ذلك ان يشكل هذا الحدث بدلالاته وتداعياته الايجابية منعطفا حقيقيا واسهاما جادا في انجاز مهام البناء الديمقراطي على كل المستويات وفي سائر الميادين .
لكن ذلك كله يحتاج الى تحويل الاتفاق والعهد بين الفصيلين الرئيسيين على الساحة الكردستانية ، الاتحاد الوطني الكردساتي والحزب الديمقراطي الكردستاني الى تلاحم كفاحي بينهما ومع جميع الاحزاب والقوى، والى وحدة في العمل لا تقبل القسمة او التراجع او الهواجس والمناورة وحسابات الربح والخسارة بل وتجاوز التخندق الحزبي وضيق الافق المناطقي وتحويل كردستان على امتدادها الى مناخ مضيء مفتوح على الديمقراطية باوسع معانيها .. مناخ مفتوح على المواطنة الحرة وما تنطوي عليها من مفاهيم المساواة وحرية التفكير والاختيار ومبادئ دولة القانون والمؤسسات وحقوق الانسان .
لكن ذلك كله لا يكفي ... فالعراقي يتابع هذا المنعطف من حالة الضيم وفقدان الامن والاستقرار وشظف العيش وتفشي الفساد ونهب البلاد والعباد لكي يرى فيه منعطفا أكبر وواحة للديمقراطية ، ورمزا لانتصار ارادتنا التي استلبت ازماناً بمقاييس الاجيال والقرون ..
لقد عرفت مسعود البارزاني رفيقا وصديقاً لا يحتاج كما احتاج الملوك والاباطرة لمن يمشي خلفهم ويهمس في آذانهم .. (تذكر انك بشر)