شاكر لعيبي
تساءلت مع نفسي مراراً، فيما إذا نسي الشعر العربيّ التقليديّ، سوى الجاهليّ، معالجة الطبيعة والتوقف أمامها بروح أعمق مما نعرفه.
فهل توقف أولاً أمامها بشكل وآخر؟ أجل توقف. لكن كيف توقف، وهل بروح أعمق مما نعرفه من نصوص وأبيات وشذرات؟
بالطبع لا نقترح رؤية شعر رومانسيّ عربيّ تقليدي، قبل انبثاق الحركة الرومانسية العالمية الداعية، من بين أشياء أخرى، إلى الاهتمام بالطبيعة والرجوع إليها حيث فيها الصفاء والفطرة السليمة، كما دعا روسو. ولا نقترح رؤية الطبيعة كما رآها الشعر الكلاسيكي الأوربيّ السابق على الرومانتيكية. نحن نهتم بغياب الطبيعة كموضوع للوجود العميق، والحاضنة الكبرى القادرة على طرح الأسئلة الكبرى كما في الشعر الجاهليّ في الأقل.
لا يتعلق الأمر بـ (أثر) و(طلل)، ظلّ تقليداً للشعر العربي بعد الجاهلي دون هواجس هذا الشعر. منذ توهّج الشعر العباسيّ نتلمس انشغالاً بطبيعة ما، أي طبيعة؟ في أحسن الأحوال، نحن أمام طبيعة مشغولة، وصفياُ، بالأترج والنرجس والرياحين وشقائق النعمان والطيور الجميلة ووصف الشروق والغروب وبرك الماء الرقراق والربيع، ربيع البحتريّ (هل الربيع هو الطبيعة كلها؟) وعموم الرياض (والروضة مفهوم ملتبس قليلاً في هذا الشعر) والفواكه مثل التفاح والرمّان، ثم أحيانا وصف للهلال، وحيوانات أخرى كالأسد والثور الوحشي، والأحصنة والظباء، وقليل آخر لا يخرج كثيراً عن ذلك.
ناهيك عن "النزعة الوصفية العامة" في معالجة الطبيعة في هذا الشعر، فإن الطيور تغرد وتزقزق، لكنها لا تهاجر ولا تستحث ايما فكرة عن هذه الهجرة (انظر ابن المعتز مثلاً)، والطبيعة أو عناصرها مُشبَّهة بغيرها، فأنت لا تعدم حضور أدوات التشبيه كأن وكأنما ومثل وكـ عند الحديث عنها: أنها لا تعالج لذاتها ولكن لأنها تستثير عناصر أخرى مألوفة، كما لو يجري ترويضها وإبعاد أي غرابة وتفرُّد لها. وحتى لو غابت أدوات التشبيه فهي حاضرة بطريقة ما، اقرأ ما قاله أبو سكرة:
للورد عِنْدِي مَحلُّ - لِأَنَّهُ لَا يملُّ
كل الرياحين جند - وَهُوَ الْأَمِير الْأَجَلُّ
إِن غَابَ عزوا وباهوا - حَتَّى إِذا عَاد ذلوا
كما أن الطبيعة في هذا الشعر جميلة على العموم، بالمعنى السائب لمفهوم الجمال "أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما"، وهي سلسلة فقط ومروّضة غالباً وليست فتاكة. لذلك لا نلتقي بعنصر وجوديّ عند معالجتها (كي لا أقول رمزياً)، إنها شيء موضوعي ثابت تقريباً قابل للوصف والتنويع على هذا الوصف. من نتائج ذلك أن الطبيعة تتحول إلى طرفة وموضوع مفاكهة:
يخجل الورد حين عارضه النرجس من حسنه وغار البهارُ (الصنوبري)
وفي النهاية فالطبيعة ذات جوهر زخرفيّ بالأحرى. ويمكن الاستشهاد بالعديد من الأمثلة على الجوهر الزخرفي هذا بالعناية الكافية التي لا مجال لها هنا للأسف.
إذا كانت هذه النتيجة سليمة، فنحن على مسافة كبيرة من مفهوم فكريّ وشعريّ عميق للطبيعة، بل نحن على تعارُض جليّ حتى مع مفهوم الطبيعة في جوهر الفكر الإسلاميّ، كونها وسيلة أساسية لإثبات وجود الـلـه ووحدانيته وبيان القدرة الإلهية في أهم مقدور لها وهو العالم الطبيعيّ بوصفه مخلوقا لله، ولكونه دالاً على الـلـه، من هنا استشهاد النص الديني الإسلامي بما في الطبيعة من موجودات. إضافة إلى ذلك فإن التشبث بذاك الجوهر الزخرفي هو استبعاد لفكر الفلاسفة اليونانيين عن الطبيعة بصفتها دالة من أجل تفسير الكون. لعلنا لا نجانب الصواب زاعمين أن النص الدينيّ الإسلاميّ عالج الطبيعة بشكل أعمق من جل النصوص الشعرية المعروفة التي تعنينا. هذه مفارقة حقيقية.
يظل السؤال هل أن (وصف) الطبيعة هو تناوُل عميق لها؟ يدغم بعض الباحثين هذا (الوصف) بمفهوم المحاكاة، متناسياً أن هدف المحاكاة هو اللذة أو الالتذاذ الجمالي الخالص الذي يقع في صلب عملية جمالية معقدة.