فخري كريم
تستأثر اتفاقية التعاون الستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة باهتمام الاوساط السياسية القيادية والاعلامية سواء كانت في مواقع القرار او خارج الحكومة والبرلمان.
وهي تستثير حكومات بلدان الجوار الاقليمي والعربي بشكل خاص، لما تشكله الاتفاقية من وجهة نظرها ومايمكن ان يرتبط بها من تهديد ومخاطر على انظمتها وحكوماتها.
وتتولى وسائل الاعلام تسويق "صيغ ومبادئ وافكار" تتضمنها الاتفاقية، من دون ان تستند الى أي نصوص او مسودات متداولة بين الطرفين المعنيين بالاتفاقية، العراق والولايات المتحدة!
ويبقى المواطن العراقي، المستهدف بعواقب الاتفاقية، أياً كانت مضامينها على هامش النقاش الدائر، مهمشاً ومقصياً ومهموماً باستمرار معاناته من تبعات الحرمان من متطلبات الحياة الطبيعية: الامن المستتب، والكهرباء، والماء النقي، وضغط التضخم والغلاء والبطالة والفساد المستشري.
ومايثير الدهشة، ان القيادات السياسية المقررة ، وهي تتناول الاتفاقية المفترضة، تتصرف كما لو انها ليست معنية بها أو بما تتطلبه من إقرار، أو رفض ، ولا تسعى للتوقف عند مسوغات عقد الاتفاقية والخلفيات السياسية والعسكرية الموجبة او المبررة لها أصلاً.
وهي تبدو غير معنية بتسليط الضوء على طبيعة العلاقة التعاقدية الراهنة، مع الطرف الامريكي، عسكرياً وامنياً وسياسياً، لكي يبدو مهماً من وجهة اعادة النظر في طبيعة هذه العلاقة وانعكاساتها على سيادة العراق واستقلاله، وحرية المواطن العراقي وامنه واستقراره.
كما لايقترب المسؤولون في مراكز القرار والحكومة قبل أي جهة أخرى، من المقاربات المرتبطة بالبدائل الممكنة للعلاقة التعاقدية الراهنة او الاتفاقية المفترضة، وعلاقة أي من البدائل بمستقبل البلاد وبالاطراف المعنية بالوضع العراقي، المقيد بالعقوبات التي فرضت عليه من قبل مجلس الامن الدولي بدءاً من قرار الحصار والتعويضات ووضع اليد على وارداته الى غير ذلك من اجحاف وإذلال يتعرض له شعبنا من دون ذنب اقترفه، ومن دون مساءلة عن اسباب استمرار التعامل معه كمعتد وليس كضحية لنظام جائر.
ان الحكومة وهي المعنية بالدرجة الاولى بالاتفاقية المطروحة، بكل تفاصيلها قبل ان تتحول الى مسؤولية البرلمان، لم تبادر حتى الان لطرح الموضوع بشجاعة ووضوح من مختلف الزوايا الخاصة بها ، وتبيان وجهة نظرها وحججها الداعمة او الرافضة ومدى خدمتها او تعارضها مع المصالح الوطنية العليا ومع سيادة واستقلال العراق.
ولايلتقط المواطنون والمتتبعون للشأن العراقي من المواقف الرسمية المطروحة حتى الآن بشأن الاتفاقية ومضامينها، سوى رغبة كل طرف حكومي او سياسي "بالتنصل من المسوؤلية" عنها ووضع مسافة بينه وبين كل مايرتبط بها!
ولا يخفى على الموطن ، الطابع المراوغ ، والازدواجية التي تقترن بالمواقف الحقيقية للاطراف الحكومية والسياسية التي تسرب وتسوق لوسائل الاعلام وللرأي العام، من دون ادنى شعور بالمسؤولية ازاء ما ينبغي ان يقرر رفضاً او قبولاً، تجسيداً لمعالم الوطنية، ولدواعي تحقيق أي انتقالة ايجابية مما نحن فيه من تقييد واستلاب للإرادة في ظل تعاقد راهن يسمح للقوات الامريكية بتجريد الحكومات من حق ممارسة السيادة.
ان الحكومة لم تبادر الى اتخاذ قرار شجاع يتعرف من خلاله العراقيون على ماتعنيه الوصاية الحالية للقوات الامريكية بتفويض من مجلس الامن تحت الفصل السابع، وما هية التبعات السياسية والعسكرية والمالية التي ينطوي عليها هذا الفصل.
كما انها لم تتجرأ لتوضيح أي بديل آخر مطروح، وهما بديلان لاثالث لهما، يتمثل الاول منه في رفض عقد أي اتفاقية بأي مضمون كان، او القبول باتفاقية تنسجم مع تصوراتها وتتمثل فيها مصالح البلاد ، وتشكل مضامينها وضعاً تفضيلياً يتجاوز التعاقد الراهن الذي يسلب الحكومة اتخاذ أي قرار سيادي يتعلق بحركة القوات العراقية والسيطرة على اجوائه الوطنية والتصدي لكل مايتعلق بالامن الوطني.
وفي الحالتين، لم تبادر الحكومة لتوضيح العواقب المترتبة على كل حالة، ولم تقدم التزاماً بجاهزيتها للاستغناء عن القوات الاجنبية بأي مستوى كان او ماهي طبيعة المساعدة او الدعم الذي ترى انها لا تستطيع الاستعاضة عنه بعد، وما يترتب على ذلك من التزامات تعاقدية علنية مفهومة ومبررة امام المواطنين.
ان التردد في اتخاذ مثل هذا الموقف الجريء والصريح يرتبط بالخشية من تبعاته على ردود الافعال السياسية الداخلية والخارجية وتأثير ذلك في مواقعها الشعبية والحزبية والموازين التي ستتأثر بفعل ذلك في ظل الصراع الدائر بين الاحزاب والتنظيمات والتحالفات، وحصصها المنتظرة سواء في الانتخابات المحلية القادمة ، او في مواقع السلطة ومراكز القرار.
ولايعني هذا التردد ومسبباته سوى انه لايرتبط من قريب او بعيد بما تتطلبه المصلحه الوطنية من قرار بغض النظر عن العواقب الذاتية المذكورة.
ان ماينبغي ان يعرفه العراقيون اليوم ، انهم يرزحون تحت اعباء تعاقد عراقي امريكي يجرد حكومتهم من سيادة فعلية على شؤون البلاد، ما يتطلب التحرك لتجاوز هذا التعاقد الذي فرضه الاحتلال والمرحلة الانتقالية التي تمخضت عنه.
إن الحكومة واطرافها ، والبرلمان وكتله السياسية، لاتستطيع ان تعفي نفسها من مواجهة استحقاقات هذا الوضع بتبادل الاتهامات والتراشق بها، وهي مدعوة الى اتخاذ موقف مسؤول مما ينبغي تجاوز الحالة الراهنة ونقل العراق الى خطوة اخرى على طريق استعادة سيادته وارساء استقلاله على اسس وطيدة