فخري كريم
شكلت عملية تطهير البصرة ، من الميليشيات والفرق الخارجة على القانون ، نقطة تحول في العملية السياسية التي ظلت متعثرة ،
بحكم الشكوك المتبادلة التي تغذيها التعديات والقتل والتهجير على الهوية. نقطة التحول الايجابية التي حققتها البصرة ، اعادت الامل ، بعد اليأس الذي خيم على الاجواء السياسية إثر النكسة الخطرة التي نجمت عن تفجير مرقد الامامين العسكريين، وتسللت منه الفتنة المذهبية لتعمق الشرخ في المجتمع ولو مؤقتاً ، وكادت تدفع البلاد الى منحدر الحرب الاهلية . هذا التحول بحد ذاته لحظة مضيئة في العملية السياسية ، بل قوة استمرار من شأنها ان تحول الامكانية الكامنة ، الى طاقة بناء خلاقة تحفّز كل مكونات المجتمع، بغض النظر عن تمايزاتها السياسية، الدينية والمذهبية والعرقية، على الانحياز الى الديمقراطية بوصفها وسيلة للحوار والعمل، ونبذ الارهاب كأداة للضغط وتغيير موازين القوى.
ان الالتفاف حول الحكومة ورئيسها كمبادر استطاع ان يلتقط لحظة التفاعل مع الارادة السياسية والشعبية، ويعتمدها لتضييق الخناق على القوى المنفلتة العابثة بالقانون وارواح المواطنين والمجتمع، والعمل على تصفية بؤرها، ارسى اساساً مكيناً لإعادة تشكيل العملية السياسية الديمقراطية، لاكتجميع لقوى متنافرة التوجهات والارادات، وانما كإطار للتفاعل والتضامن والعمل الموحد على اساس برنامج ديمقراطي يستوعب التناقضات ، ويجسد الطموح المشترك ببناء عراق اتحادي ديمقراطي، يقبل بالتنوع في اطار الوحدة والتفاعل .
ومثل هذا الهدف الذي لايمكن بدون تحقيقه، وضع حد للحالة الراهنة التي تنهك قوى البلاد ومواطنيها وتبدد الطاقات ، يستلزم الابقاء على مستوى الدفع الايجابي للعملية السياسية وقواها، ونقلها الى حياة الناس، والارتقاء بها الى مستوى تطلعاتهم التي باتت منذ سنوات، أسيرة أبسط متطلبات الحياة الطبيعية، من مياه الشرب والكهرباء ولقمة العيش الكريم، والامل باستعادة الثقة بالقيم الوطنية التي عصفت بها حروب الجاهليات.
إن جذب الاوساط الشعبية الى المشاركة النشيطة في عمليات البناء والتصدي للمفاسد والتحديات، يحتاج قبل كل شيء الى انتقال الحكومة والقوى السياسية من الشعارات والدعاوى الشعبوية الضيقة الى التطبيق العملي.
فلم يعد ممكناً استمرارالاوضاع المأساوية، لجمهرة واسعة من ابناء الشعب، على ماهي عليه، من دون ان يصيبها اليأس واللامبالاة .
فالمهجرون داخل البلاد، يشبعون جوعاً وعوزاً وانسلاخاً عن المجتمع وهم يفترشون ما يشبه العراء احياناً ويتابعون الاناشيد التي يتغنى بها القادة الذين يعدونهم بالعودة الكريمة الى ديارهم.
والمهجرون في الخارج ينتظرون الفرج ايضا ًوخيبة الامل تسد عليهم منافذ الخلاص، وهم يزدادون ضيقاً وتبرماً من الشبهات وضعف الولاء التي ترجمهم بها الحكومة، والقيادات السياسية المقررة، ويجري التعامل معهم على اساسها، فمثل هذا المفهوم كان السبب في انهيار شبه الاجماع الوطني الذي كان مفترضاً تحقيقة بعد سقوط النظام الاستبدادي والانطلاق منه في الحراك العام لتعبئة الرأي العام في البلاد والانحياز الى العراق الديمقراطي الجديد .
من العيب علينا ان لانأخذ بالاعتبار حالات السقوط الاجتماعي والتشتت السياسي الذي يراد له ان يسم اهلنا في الخارج .
ان المهدور في "صفقة فساد" وزاري واحدة قد ينتشل آلاف العراقيين التواقين للعودة الى وطنهم من وطأة المحنة التي يرزحون تحت ثقلها ، فلماذا تقابل الدعوات للاخذ بايديهم الى صيحة في القفار؟!
ان بإمكان اللحظة الراهنة، ان تصبح قوة دفع نموذجية لإخراج دعوات "المصالحة الوطنية" من مجرد عقد اللقاءات والمؤتمرات والتمنيات من القوى الخارجية، الى استنهاض جماهيري يحسم خيارات الاحزاب والقوى ويحاصرها بما ينبغي ان تكون عليه،لابما هي فيه من نزعات ضيق افق سياسي طائفي، ومحاصصة كريهة تفكك وشائج المجتمع، وتدمر قيم المواطنة الحرة.
إن الحكومة ورئيسها، والقيادات السياسية في مختلف مراكز القرار، مدعوة الى ترجمة النجاحات الامنية الى خيار سياسي لإعادة توحيد قوى المجتمع، المدخل الموضوعي لوحدة البلاد .وهي مدعوة إلى ذلك، لأن فيه يتجسد اي توجه جاد لاستعادة سيادة العراق .
هذا الخيار، يستحق المغامرة بالمكاسب الضيقة التي لاتدوم لأحد..
وهو خيار صعب يحتاج الى جرأة وإحساس عميق بالوطنية