فخري كريم
بموجب القرار 1546 الصادرمن مجلس الامن في 8 حزيران عام 2004 يخضع العراق الى وصاية مباشرة من قبل القوات المتعددة الجنسية،
اي القوات الامريكية في واقع الحال.ويطلق هذا القرار يد هذه القوات ويمنحها حق التصرف والتحرك بحرية مطلقة، من دون أي قيد او شرط او خضوع للقوانين العراقية، ومن دون ان تكون للحكومة العراقية او أي مسؤول عراقي مهما كان موقعه في سلم الدولة رفيعاً او مقرراً، الحق بالتدخل فيما تتخذه من قرارات او تحد من حريتها .إن للقوات الامريكية الحق وفقاً للوصاية التي تضمنها قرار مجلس الامن، الاشراف على العمليات العسكرية والامنية براً وجواً بما في ذلك حركة الطيران المدني، من دون ان يستطيع حتى رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء ناهيك عن قادة البلاد الآخرين التنقل في الاجواء العراقية من مدينة الى اخرى من دون اذن مسبق من القيادة الامريكية في العراق وموافقتها .
ولهذه القوات ان تتصرف بحرية في دهم المدن والاحياء والمنازل ومقرات الاحزاب والوزارات ومؤسسات الدولة من دون استثناء واعتقال من تشاء لأي فترة تقررها .
بل ان مناطق تكاد تشمل اهم المواقع الستراتيجية في مختلف انحاء العراق وفي العاصمة بشكل خاص، (المنطقة الخضراء، القصور الرئاسية والمطارات) تقع تحت السيطرة المباشرة للقوات الامريكية، ويخضع كبار المسؤولين العراقيين وبضمنهم وزراء الدفاع والداخلية والامن الوطني وقادة الفيالق والفرق والنواب الى التفتيش والمساءلة عند المرور من نقاط السيطرة الامريكية، على ان يحمل كل منهم هوية صادرة من السلطة الامنية للقوات الامريكية، التي لاتمنحها لأحد من دون ان يراجعها شخصياً، ويملأ استمارة استبيان تفصيلي بخصوص سيرته الذاتية والسياسية، مع ما تتطلبه من "طبع اصابع"او بصمات عيون"! ومع كل ذلك فإن الجندي الامريكي، او حتى القادم من مجاهل افريقيا وبلدان شرق وجنوب آسيا يحق له ان يمنع مرور المسؤول او يخضعه لإجراءات مشددة يتفنن هو بابتكارها، وغير ذلك من التدابير ذات الطابع السيادي التي لاتمارسها الدولة على مواطنيها الا بقانون.
إن العراق منذ تعيين بول بريمر "وصياً مطلق الصلاحية على العراق" يعيش في ظل هذه الحالة، وما تغير فيها بعد مغادرته وتسليم (السيادة) الى الحكومة الانتقالية اقتصر على "اعلان انهاء الاحتلال " مع الابقاء على تدابيره!
ولا يراد من تبيان هذا الواقع ، الانتقاص من التقدم الذي احرزته العملية السياسية الديمقراطية، سواء على صعيد اعادة بناء مرافق ومؤسسات الدولة او تمكين الاجهزة الامنية والعسكرية، غير ان الحكومة العراقية في سياق هذا التقدم السياسي والعسكري والامني ظلت مقيدة بالقرار 1546 ومضامينه المخلة بالسيادة.
ولا يقتصر الامر على الصلاحيات السيادية والامنية والعسكرية التي تتمتع بها القوات الامريكية وفقاً للقرار المذكور بل انه منح الشركات الامنية الامريكية والاجنبية حصانة كاملة بمنأى عن القوانين العراقية ، تجيز لها حتى قتل المواطنين العراقيين والاعتداء عليهم وعلى حرماتهم .
إن المشهد المذل الذي يتكرر يومياً امام انظار العراقيين، ويلخص الحالة الراهنة التي تعيش في ظلها البلاد، يعكسها "امتثال" سيارات ومواكب كبار المسؤولين وليس المواطنين فحسب، عند مرور اي رتل امريكي للتحذير الآمر "لاتقترب القوة مخولة باطلاق النار" .
ان النقاشات الجارية اليوم من وجهة نظر العراقيين بشان امرار اتفاقية ستراتيجية عراقية امريكية، او البحث عن خيارات وبدائل اخرى، لابد من ان تستهدف، انهاء هذا الواقع واستبداله بما يعيد للعراق سلطته المقررة وسيادته على اراضيه واجوائه وتحقيق استقراره وأمن مواطنيه، وتحريره من أي وصاية أجنبية.
ونحن نعرض حالنا ، لسنا في معرض الشك بنيات اطراف الحكم والقيادة السياسية، بل في عدم اعلانها الصريح عن نياتها الفعلية، وتحديد مواقفها بشفافية من موقع المسؤولية الوطنية ازاء مصائر البلاد .
ان الحكومة العراقية مطالبة، بتوضيح وجهتها او حتى موقف كل طرف فيها "اذا اقتضى الامر" ازاء مايطرح من خيارات، وفي مقدمتها خيار عقد الاتفاقية المقترحة مع الولايات المتحدة ومضامينها وشروطها.
وفي كل الاحوال، لابد من كشف المستور من المواقف، في ضوء ما يحققه اي بديل لجهة استعادة السيادة، وتكريس سلطة الدولة على مقدرات البلاد، وانهاء الوصاية الاجنبية او تقريب الخلاص من وجودها .
إن الاتفاقية مع الولايات المتحدة او اي بديل آخر يمكن ان يحظى بموافقة العراقيين، يشترط استجابته الواضحة والصريحة للمصالح الوطنية العليا، ومراعاتها للحساسية الوطنية للعراقيين الذين ذاقوا الامرين من الحروب والاحتلال وتبعاتهما ،ومن اعباء المرحلة الانتقالية التي فرضتها الوصاية الدولية عبر قرار مجلس الامن .
ولسنا في معرض الشك ايضاً، بإمكانات وطاقات شعبنا ودولتنا الوليدة "مشوهة التكوين" ولا بما تحقق من تقدم وانجاز على صعيد تمكين قواتنا المسلحة والامنية،.. لكننا ونحن نؤكد ذلك، ننتظر من اولي الامر والنهي في الحكومة والقيادة السياسية ان يضعونا في صورة الامكانات الفعلية لتبني اي خياراو اتخاذ اي خطوة جريئة وحازمة على طريق استعادة سيادتنا وتحديد مستوى ما تتطلبه اي خطوة وما يترتب عليها من نتائج .
ان مالانريده في كل الاحوال هو استمرار الوصاية علينا، بالخروج من الفصل السابع من ميثاق الامم المنحدة ...
ويبقى على الحكومة ان تكاشفنا بأي وسيلة تحقق لنا هذا المراد الصعب والمعقد ..
فهل لها ان تتجرأ وتكشف المستور من المواقف والإرادات؟!