هذه الصورة ذات المعالم والمعاني والانطباعات المتعددة المختلفة، نابعة من صميم تراثنا الشعبي المحلي الاصيل، فهي (بغدادية) قلبا وقالبا..شكلا ومضمونا ، ترتاح لها النفس، وتسرح بسببها الخيالات والخواطر الى الامس القريب، الى العشرينيات وتقف العيون الباصرة عند هذا الزي العراقي المهيب تستشف من تناسقه وانسجامه ملامح من طيب اهل العراق.
ويأتي دليلا على حسن ذوقهم وترفهم، فهي تجمع بين الجمال والكمال، وبين فنية الانجاز والاعجاز التصويري، بلا مواربة ولا ادعاء. والذي يهمنا من هذه الصورة (الوثائقية) الطريفة، هو هذا الطفل (المحظوظ) الذي يقف مبهورا يحمل بيده اليسرى لعبة صغيرة، جاءته هدية جزاء نباهته وامانته. ولهذه المسألة –او المصادقة التي تخلق اعجوبة – اقصوصة نقصها على عجل: في يوم ما عثر هذا الطفل في الطريق، وكان اهله قد ارسلوه في حاجة على ساعة جيب ثمينة، سلمها فور عودته الى البيت.. الى اخيه الكبير (كاظم) الذي يبدو في الصورة جالسا على كرسي.. ويقف الى يساره صديقه (قاسم) وقد تبين فيما بعد ان الساعة تعود لوجيه من وجهاء بغداد هو المرحوم الحاج باقر ابو التمن (والد السادة: الدكتور صادق، وتوفيق، وسليم، وشاكر)، فحين اعيدت اليه، رأى ان يكرم هذا الطفل الامين بهذه الهدية الرمزية البسيطة. الطفل اليوم في الثانية والستين من عمره، يحمل تاجا من الشعر الابيض الخفيف فوق رأسه، ولانقول شيبته الليالي، لان قلبه الخافق بالامل والثقة والايمان وحب الناس والحياة، اكتسب من الايام، حلوها ومرها، تجربة ناضجة واعية صقلت عواطفه واحاسيسه ومشاعره وجعلت منه رجلا فقيها عارفا ببواطن الامور وملابساتها.. وهو من مواليد بغداد، وفي محلة (صبابيغ الال) بالذات ، كانت له في هذه العقود الستة امتع قصة بين (الزمن) والزمان، سعى في اول دربه الشاق الطويل ماشيا، ودرس في الليل في ضوء الفوانيس، وعمل مع اخوته في النهار، وتخرج في كلية الحقوق، ونال من اخوته العون والمعاضدة، بعكس ما نال يوسف من اخوته.. فكان تاجرا صغيرا ، ثم صار من اوساطهم، ثم من كبارهم ، فلم ينس او يتناس شيئا من اوراق دفتره القديم، وحين وجد ان خير الامور الوسط، وضع نفسه حيث يكون الخير. عشق الادب منذ تمكن من المطالعة وتعلق باهل الادب وصار من رواد مجالسه ، وولع بالاسفار والرحلات ، فذهب شرقا وغربا، وكتب في ذلك الكتب. تشهد صحفنا العراقية والعربية، البديع الممتع من نثار قلمه الفضي المطواع، وتشده الى كل الادباء العرب وشعرائهم اواصر مودة لاتنفصم، وصداقات وعلاقات ادبية متينة. صفحات مسيرته نقية، لاشائبة فيها ولا شطوب وابجدياته واضحة خالية من الاعجام والغموض. يعكف اليوم على اعداد مؤلف عن عاصمة العواصم، بغداد الشموخ والفتح المبين، عن اشهر احداثها ووقائعها المعاصرة، الى جانب معالمها الاثرية وتراثها الحضاري القائم. تراه من يكون طفل البارحة.. شيخ اليوم، هذا الذي لازمته الساعة منذ طفولته حتى يومه هذا؟ حتى انه صار ينسب اليها وبرغم انه يحمل شهادة الحقوق، وهوية المحاماة وعضوية اتحاد الادباء والكتاب في البلد؟ انه الاديب ناجي جواد المحامي...الساعاتي!
عدسة الذاكرة :ماذا تقول الصورة؟
نشر في: 2 مايو, 2010: 05:43 م