فخري كريم
يقال إن دوائر الأمن في الخمسينات من القرن الماضي في ظل الحكم الملكي اعترضت على قرار نوري السعيد تعيين احد الموظفين،
على رأس دائرة مالية رقابية في متصرفية بغداد. وحين استفسر عن السبب قيل له إن الموظف المذكور " شيوعي" ! فابتسم ورد عليهم انه اختاره لهذا السبب بالذات، لأنه يعرف أن الشيوعيين يريدون قلب النظام، لجملة أسباب منها استشراء الفساد، لكنهم يتميزون بمنتهى الأمانة ، أي أنهم نظيفو اليد!
بالطبع لم يكن الشيوعيون، ولا غيرهم، يعتبرون نوري السعيد "وطنياً" بتعبير ذاك الزمان، ولا حتى بمعايير أيامنا هذه، حيث أصبحت السرقة والتعدي على حرمات الناس وكراماتهم، ونهب ثروات البلاد، والتزوير والامتيازات والاستيلاء على أملاك الدولة وشرائها بالتحايل على القوانين،مجرد أخطاء قابلة للتصحيح بقرارات وزارية، شرط أن تكون مبررة، وقابلة باعتبارها وجهة نظر.!
أمس أوعز رئيس الوزراء، وآمل أن لا يكون هو، إلى قواته أن تطلب من جهتين سياسيتين، شاركتا مع المحتجين في مظاهراتهم بالمطالبة بتحصين العملية السياسية، والتجربة الديمقراطية المهددة من داخلها، بإخلاء مكاتبهما خلال يومين! ولم يعرف مصدر القرار أن مثال الآلوسي مستأجر ، وليس بمحتل لأملاك الدولة مثل كل شركائه ، وهو بلا حول ولا قوة على لوي قرارات الدولة ولو إلى حين.
أما الحزب الآخر الذي قرر السيد رئيس الوزراء معاقبته ، لرفضه الاستجابة لطلبه بعدم المشاركة في المظاهرات الاحتجاجية على الفساد وانعدام الخدمات، فهو الحزب الشيوعي، الذي قدم آلاف التضحيات،دفاعاً عن الديمقراطية وعن وطن يستباح بالفساد.
قد يرى البعض أن هذا القرار دفاع عن أملاك الدولة والمال العام، وخطوة على طريق التصدي للفساد الذي يأكل الأخضر واليابس، فلماذا الاعتراض؟ من المؤكد أن هذا الإجراء كان يصب في الاتجاه الصحيح ، لو لم يأتي في هذا السياق المتهافت، ولو جاء في سياق استعادة مقرات الأحزاب دون استثناء، وكذلك الأملاك التي تحولت إلى سكن لقادة التحالف الوطني، وتغطي مساحات تفوق ما كان يتمتع بها بعض قادة النظام السابق. ولبعضهم أكثر من مقر وسكن في المنطقة الخضراء وفي الأحياء الأخرى من بغداد وغيرها من المحافظات التي تشكو تجاوزات الأحزاب الحاكمة ، احتلالاً للأملاك أو شراءً لأملاك الدولة بأبخس الأثمان!
إن هذا القرار يظهر كيفية تعامل الحكومة مع القضايا المثيرة لغضب المواطنين، والأولويات التي تعتمدها في معالجتها . وهي معالجات لا تظهر جديتها في التعامل مع رزمة المشاكل التي تلم بالبلاد، وتثير غضب ونقمة المواطنين، الذين يبدون مع تصاعد احتجاجاتهم حرصاً وقلقاً أكثر مما تبديه الحكومة على مصائر البلاد والحكم القائم.
ولا يراد بهذا التجني على رأس الحكومة أو الشركاء المتملصين، التواقين لركوب موجات الغضب لتحسين حظوظهم في المشاركة، وإنما هو تحصيل حاصل لما بدر منهم حتى الآن. فقد كان من المؤمل أن تصحح الحكومة من تقديراتها حول نوايا المتظاهرين في جمعة الغضب، وتُتخذ الإجراءات التي تعبر عن ثقتها بهم، ورغبتها المخلصة بالاستجابة لمطالبهم وإيجاد السبل الكفيلة بإشراكهم في معالجتها باستخدام كل الإمكانات المتاحة، والبحث عن إمكانات استثنائية، فعلت العكس تماماً ، وعكست امتعاضاً متزايداً من الحركة الاحتجاجية، وإصرارا على مواجهتها بأساليب لا علاقة لها بأي قدرٍ بالممارسة الديمقراطية. بل ويبدو أنها حاولت اكتساب الخبرة من تجربة جمعة الغضب، لتأمين أدوات أكثر فاعلية من وجهة نظرها في التصدي لأي احتجاج في المستقبل، سواء بتدابير استباقية عبر جمع المعلومات عن النشطاء أو اعتقال من ترى فيهم ريادة في تنظيم الاحتجاج،وتحفيزه، أو غيرها من الأساليب التي لم تكن يوماً ، كما أثبتت التجربة ، مأمناً لأي حكومة أو نظام.
لقد اختارت الحكومة بإنذارها الحزب الشيوعي إخلاء مقراته كأضعف خيار لها ، لتأكيد قوتها وهيبتها، بل وتقديرها لشريك في العملية السياسية تعجز عن اتهامه بالانخراط في الفساد او التآمر على النظام الديمقراطي، بل وفي العمل على اضعاف حكومة المالكي شخصياً. لكن ذلك لا يمنعه من احترام استقلاليته وانحيازه لمطالب الجماهير المسحوقة، ربما لأنه لا يملك غير هذا الخيار لتأكيد هويته وصدقيته .وسبق له أن قدم كوكبة من الشهداء والتضحيات، دون أن يقبل التضحية بهويته واستقلاليته.
إن مثال الآلوسي الذي عبر عن شجاعة وجرأة في مواجهة الموجة الإرهابية للطوائف المستبيحة طوائفها، يستطيع أن يتنقل بين مريديه دون حاجة إلى مقر، فهو يعرف أن المقرات ، غالباً ما تكون مقتلاً لأحزابها، ويعرف أنها قد تتحول مع مرور الوقت ودوام الحكم للحاكمين إلى مراكز للصفقات المريبة ، لكنها لن تعظم حزباً لا في عديد الأنصار ولا في الهيبة، وإلا أين مقر الحزب الوطني المصري،وأين بناية الحزب الدستوري التونسي؟
أما الحزب الشيوعي فلديه أجمل فسحة لنشاطه تحت جدارية جواد سليم........ مزار المظلومين، المكتوين بالإجحاف والعقوق، في ساحة عمال "المسطر" الذين عيرتّهم نائبة دولة القانون!
من يدري قد يتحول نصب الحرية إلى مظلة وارفة لكل دعاة الحرية!