فخري كريم
كارثتان حلتا بالأمة العربية، في وقت واحد، مهدتا لحقبة الهزائم التي لم تتوقف بعد، وإن بدأت بوادرها مع انتصار الثورة الشعبية،
في كل من تونس ومصر، وتتواصل في ليبيا واليمن، لدحر العقيدين وتنقية الفضاء العربي من أدرانهما المتفسخة.
حلت الكارثة الأولى بإقامة دولة إسرائيل، والثانية، بإعلان الحكام العرب حربهم على شعوبهم، بحجة التعبئة القومية لتحرير فلسطين، التي ظلت رغم تساقط الأنظمة الملكية، والحكومات "الرجعية" نهجاً لكل نظامٍ جديد، وتحت شعار التحرير ذاته، بل أن النظام الجديد، كلما كان راديكالياً في "قوميته" و"تقدميته"، أبلى بلاءً منقطع النظير في تأكيد وتكريس قانون الطوارئ على أنه ضرورة مقدسة لاسترجاع فلسطين والدفاع عن حياض الأمة، وتحقيق آمالها بوحدة العرب.
لم يتوقف الأمر عند قانون الطوارئ، الذي كان كفيلاً بكم الأفواه، ومصادرة الحريات، وحل مجالس الأمة، إن وجدت، وإسقاط الحكومات والمعارضات على حد سواء، بشبهة التواطؤ مع العدو، عبر سلسلة لم تتوقف من الانقلابات والإجراءات التي عسكرت العالم العربي ومجتمعاته، باسم استكمال العدة للمواجهة الكبرى، بل أقدمت أنظمة المواجهة، جمهورية كانت أم ملكية، تحت قبة الجامعة العربية، وباستخدام قانون الطوارئ، على إنفاق ثروات البلدان العربية الغنية، على التسليح من الشرق والغرب، وتجديد ترسانة الدول النووية بالأسلحة الجديدة، بترحيل فضلاتها القديمة من السلاح إلى الجيوش العربية. ولم تبخل الدول الغنية على تمويل صفقات تسلح البلدان العربية الفقيرة، باسم التضامن العربي، والمساعدة في تمكينها من التنمية والتطور.
وفي مقابل تكريس الجزء الأكبر من موازنة الدولة الغاشمة إسرائيل، وما تتلقاه من مساعدات ضخمة من الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب المتحالفة معها، ومن الحركة الصهيونية العالمية لجوانب التعليم والثقافة والفنون، والتطور الصناعي والزراعي، والإنفاق على مراكز البحوث والدراسات للتعرف بوجه خاص على الأوضاع العربية وما يجري فيها، فإن النسبة الأعظم من موازنات البلدان العربية، "الوطنية والتقدمية" منها بشكل خاص، أنفقت على تعظيم الجيوش عدةً وعدداً، وتنويع تشكيلات الأجهزة الأمنية والمخابراتية، الخارجية والداخلية، ولم تخصص سوى فضلات الموازنات لشؤون التعليم والثقافة والتنمية، البشرية والأوجه الأخرى للتطور. ولم تعرف الشعوب العربية حتى الآن أي أرقام لموازنات دولها، أو أوجه صرفها أو نسب الإنفاق المختلفة بحجة "الأمن القومي" والخشية من تسرب أسرار استعداداتها إلى العدو، مع أن تلك الأسرار، المتضمنة أساساً الصفقات العسكرية وأنواعها وكمياتها، كانت تقدم "للعدو" من حلفاء الطرفين مع التوقيع عليها بالأحرف الأولى، بل أن أي صفقة لم يكن يجري التفاوض بشأنها قبل الاتفاق مع إسرائيل من قبل الدولة المزودة.
وكلما لاحت هزيمة في الأفق، ازدادت وطأة قانون الطوارئ على الشعوب العربية، وتكبلت بقيود أوسع وأمضى، حتى أصبحت الهزيمة في المواجهة الخارجية مع إسرائيل، واشتداد القمع الداخلي على الشعوب العربية متلازمتين لا انفصام بينهما.
وخلال أكثر من ستة عقود من الصراع العربي الإسرائيلي، تراجعت الحياة العربية في كل مناحيها، وتجهّلت الأجيال الجديدة، وازداد العالم العربي تخلفاً وتراجعاً وعزلةً عن سير التطور العالمي، وازدادت مظاهر الفقر والفاقة في كلا المحيطين العربيين، المحيط العربي النفطي الغني، والبلدان شحيحة الإمكانات والفقيرة، حيث ازداد الفقراء فقراً وبؤساً، حتى أوى ملايين منهم إلى المقابر وفي بيوت الصفيح والطين والخيام، وأمست المزابل مضيفاً لهم، وازداد الأثرياء غنى فاحشاً، بأرقام متواليات هندسية أو بأرقام فلكية.!
ومن اللاءات العربية المشهورة التي رافقت أجيال الصمود والتصدي، إلى "لعم" العربية المشهورة التي تحايلت على عقولنا بالانتقال إلى القبول الخجول، الحوار مع إسرائيل والتعامل معها كأمر واقع، وصولاً إلى الصلح والاتفاقيات الأمنية والسلطة الفلسطينية، ظل سيف الطوارئ والأحكام العرفية مسلطاً على الشعوب العربية، وقد جرى الإصرار على إدامتها، وكأنها أصبحت هذه المرة، ضمانةً لحرية الحكومات العربية في اتخاذ ما تراه مصلحة قومية، مع إسرائيل، وخشية من تمرد الشعوب على أي خطوة تجد فيها خلاص العرب واستقرارهم.
وعبر هذه العقود الستة وما ينيف عليها، تعاقبت أنظمة وحكومات، تغيّر الحكام فيها، وأجريت التعديلات على دساتيرها حذفاً وإضافة، تلفيقاً وتكييفاً، لكن هذه الأنظمة والحكام، أبقت على الطوارئ والأحكام العسكرية العرفية باعتبارها "تعويذة قومية" ترقى إلى ما لفلسطين والقدس من قدسية، ولم يتعفف بعض مدعي الفكر القومي من إيجاد تنظير للجهد القومي الذي تضطلع به هذه الأنظمة وهؤلاء الحكام، والعقيد القذافي شاهدٌ حيٌ على عفونة المنظرين القومجية، والزعماء منهم، الذين نشر الثوار الليبيون أسماء البعض منهم، ممن قال عنهم سيف القذافي"إنهم كانوا يلعقون أحذيتنا راكعين". ولكن بعضهم يتنادون حتى في أيامنا هذه للتشاور حول ما يجري "للأمة العربية" وما ينبغي اتخاذه للحياض عنه.
لقد كشفت العقود العجاف في تاريخ الأمة العربية المسلوبة الإرادة والحرية والمستقبل، أن فلسطين قد تآكلت وانتهت السلطة فيها إلى سلطتين: إحداهما مرتهنة والأخرى تداري عرابيها الذين يتساقطون تحت وطء ثورات شعوبها. دون أن تهتدي إلى سبيل جديد. ويفيق ضحايا الطوارئ والأحكام العرفية على حقيقة أن التعلل بفلسطين يفقد مع مرور الوقت بريقه، حيث يزداد قضم الأراضي بالكيلومترات، تحت أنظار العرب وعجزهم، لتتقلص مساحتها، وتضيق حظوظها بقرب الفرج، وبحلول الدولة الفلسطينية، قبل أن تتضاءل الأرض فلا تتسع لمن بقي فيها!
بعد كل هذا الانحلال والتفسخ السياسي والتدهور في الوضع العربي، والتمزق الذي يعاني منه العرب، وتفرقهم إلى شيعٍ ومحاور وعصبيات، تفيق الجزائر التي تبعد آلاف الكيلومترات عن حدود إسرائيل، وليست بمعزل عن مخاض عسير يلم بها، وريح عاتية تهدد النظام فيها بالثورة عليه، يبادر البرلمان فيها بإلغاء قانون الطوارئ، وكأن القضية القومية التي تشبث بها مبرراً لتسلطه على الشعب الجزائري منذ انتصار ثورة المليون شهيد، وشروعها بأكل أبنائها، انتصرت، بإلحاق الهزيمة والانكسار بالجزائريين وليس بإسرائيل!
ومثل كل الشعوب العربية، لا بل أكثر منها جميعاً، نكب الشعب العراقي بقانون الطوارئ، دون فكاك منه، رغم التغيرات العاصفة التي حلت بالمنطقة منذ ضياع فلسطين. فقد أحال الانقلابيون في ٨ شباط ١٩٦٣ العراق إلى مسلخ بشري، أزهقوا فيه أرواح عشرات آلاف الوطنيين والشيوعيين، وجردوا الجيش من آلاف الضباط من مختلف الرتب، ممن شاركوا في حرب فلسطين عام ١٩٤٨ببسالة مشهود لهم بها، فاعدموا قادتهم ونكلوا بمن بقي منهم حياً في السجون والمعتقلات، ونفذوا كل هذه الارتكابات التي لا سابق لها في تاريخ العراق، إلا أيام هولاكو، باسم الوحدة العربية وفلسطين. ولم يشهد العراق والعالم العربي في عهود البعث والطاغية صدام، نظاماً آخر أسهم كما فعل البعث "الوحدوي" في تشتيت الجهد العربي وتفريق العرب، ومهد لانهيار جدران الصمود العربي وتفكيك الروابط بين البلدان العربية وتمزيق نسيج الأمة العربية. وتحت واجهته "القومية" المتهرئة، شن حروبه الداخلية والخارجية المدمرة، مزهقاً ومشوهاً ومروعاً ملايين المواطنين، ومبدداً بلايين الدولارات. مدشّناً هذه الجرائم التي هللت لها الأوساط "القومجية" في العالم العربي، وسجلوها كمآثر تاريخية لصدام حسين، بضرب الشعب الكردي بالسلاح الكيمياوي، وبالزحف على فلسطين من 'الجبهة الشرقية' بشن الحرب 'الاستباقية' على إيران، ثم باحتلال الكويت، للزحف منها على فلسطين وتحريرها.
ليس في هذا الذي فعله أعتى نظام "قومي" و "وحدوي" ما هو غريب على نظام فاشي، معاد ٍلأي أمانٍ قومية ووحدوية عربية، كما هو معادٍ لأي تطلعٍ ديمقراطيٍ وإنساني، كما أكد عليه في نهجه وفي سياسته المدمرة، لكن المثير للسخرية أن تهب القطعان من فصائل القومجية وتلتقي معها فصائل 'وطنية' 'وتقدمية' و'اسلاموية' في العالم العربي والإسلامي، للتضامن مع هذا النظام، الذي يخوض حرب العرب دفاعاً عن جبهته الشرقية، وهو يخوض حربه العبثية مع إيران، والذي يفتح الطريق أمام الوحدة العربية عبر اللجوء إلى الوسيلة "البسماركية" المجربة التي لم يعد هناك مناص منها، بعد فشل الوسائل السياسية في تحقيقها!
ولا غرابة بعد ذلك أن تلتقي كل الأنظمة العربية، معه في حربه الأولى وتقدم له الدعم السخي بمليارات الدولارات، لترحله بلا حياء ديناً ملزم التسديد على شعبنا المنهك بتلك الحروب، ولا غرابة أن تبكيه هذه الأنظمة، وهو يلقي مصيره المحتوم!
ولا من نهاية للعواقب المهلكة لقانون الطوارئ، على مصائر الشعوب العربية حتى الآن، إذ ينتظر الشعب المصري، الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ثم الانتخابات التشريعية والرئاسية ليتقرر مصير قانون الطوارئ، والقوانين والتعليمات المرتبطة به، ومنها قانون الأحزاب وغيره. إما مصيره في البلدان الأخرى فهو رهن بوجهة تحرك تسونامي الغضب، ونتائجه النهائية في ليبيا واليمن، وتداعياته في بلدان عربية أخرى.
لكن استثناءً عربياً يشذ بحاله في هذا السياق مدركاً بسليقته السياسية وتجربته المضنية، التي جعلت له الريادة التاريخية في إطلاق الغضب الشعبي، تلك هي تونس التي كسرت حاجز الخوف والصمت، وأسقطت نظامها الاستبدادي، بجموعها العزلاء، لا بالانقلاب العسكري كما كان رائجاً، وفتحت بمبادرتها ومبادأتها الباب، أمام الشعوب العربية لأخذ زمام المبادرة والنهوض لاستعادة إرادتها وحريتها وتقرير مصائرها. لقد أنجز الشعب التونسي تصفية نظام بن علي ورفض أي تسوية مع مخلفاته، لكنه لم يكتف بذلك، بل طالب بإلغاء أي جهاز امني أو مخابراتي يستهدفه هو، ويتربص به، ويكيد له لصالح الحكام وأولي الأمر. وهو إذ يصر على هذه المطالبة يدرك بتجربته، أن تغير الحكام وإسقاط الأنظمة لا يكفي وحده لإرساء أسس نظام ديمقراطي وطيد، دون تصفية الإرث الثقافي والتقاليد والممارسات التي يكرسها الاستبداد في المجتمع، وفي الأطر السياسية الملازمة له، ودون تكريس مؤسسات دولة ديمقراطية، وقضاء مستقل، وفضاء إنساني يحترم المواطنة الحرة كقيمة أسمى، وكقاعدة للتعامل بين الناس ومع الحاكمين. لكن ذلك لا يتكامل دون إلغاء الأجهزة والمؤسسات الأمنية والمخابراتية، التي ولدت وترعرعت وتدربت واكتسبت ثقافة وحيدة، مبنية على أدوات وأساليب القمع ضد المواطنين بوصفهم، العدو المستهدف، بغض النظر عن تغير الظروف والحكام والمهام. لقد رد صدام حسين يوماً في معرض شكوى الحزب الشيوعي، في أوائل السبعينيات من عدم توقف الأمن عن مراقبتهم واستهدافهم "لا استطيع مطالبتهم بالتوقف عن ذلك، لأنهم ربوا على هذه المهمة، ولو طالبتهم بالتوقف عنكم، أخشى أن يتوقفوا عن أي مراقبة ، وهذا خطر على الثورة!".
إن ديمقراطيتنا الهشة، أقيمت على خرائب النظام السابق كما أراد لها ذلك مفوض الاحتلال الأميركي بريمر. وشكلا الإرهاب والتكفير عاملي ضغط لتكوينها كما كان، وبالأساليب التي تتمكن معه للمواجهة مع فلول النظام السابق وجحافل القتلة والإرهابيين.
لكن الإرهاب ظل مستشرياً في البلاد، وظلت الدماء تسفك دون أن تستطيع الأجهزة المخابراتية قطع دابر الإرهابيين، رغم التقدم الذي تم إحرازه على الصعيد الأمني.
وفي أول تجربة علنية لهذه الأجهزة، ظهر بوضوح أنها عالية التدريب في التصدي للمواطنين، والتمكن من تعريضهم لكل ما كان حرياً بأي جهاز مبنيٍ على مواجهة الشعب، وليس مواجهة أعدائه. لقد ظهر بأن الحكومة كانت مهيأة لمثل هذه المواجهة في وقت مبكر، والأخطر في ذلك كله أن الأجهزة وقياداتها مسلحة بكل ما في ترسانة الاستبداد من ثقافة القمع والمطاردة والتجسس والتعذيب البشع غير الأخلاقي وغير الإنساني بكل المعايير التي اتخذت لها طابعاً كونياً.
إن أي حديث عن الديمقراطية وإقامة دولة القانون والمؤسسات والعدل الاجتماعي والمساواة أمام القضاء، يفقد جوهر محتواه، إذا لم يعد البرلمان العراقي النظر بالأجهزة الأمنية والمخابراتية بمختلف تشكيلاتها ومهامها وبكل تفاصيلها. ولن يكتمل بناء هذه الأجهزة بما ينسجم مع متطلبات النظام الديمقراطي وتطلعات المواطنين، دون إعادة تثقيف هذه الأجهزة ديمقراطياً.
وحتى يتحقق ذلك يصبح أي كلام عن الديمقراطية والنظام الديمقراطي، مجرد مشروع للتمنيات!