TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > حول مفهوم التوافق الوطني : التنوع فـي إطار الوحدة

حول مفهوم التوافق الوطني : التنوع فـي إطار الوحدة

نشر في: 22 مارس, 2011: 07:16 م

فخري كريم

(1)

كان من الطبيعي، أن تظهر التنوعات "المكوناتية" في المجتمع العراقي، بعد الإطاحة بالدكتاتورية في نيسان ٢٠٠٣ لتعبر كلٍ عن ذاتها،

وتبرز "هويتها"، وتعيد تشكيلها "سياسياً"، بقوة ووضوح، وقد اتخذت لجدّتها طابع الصدمة.

 لقد ظهر العراق الجديد، بالنسبة للخارج العربي والإقليمي بشكل خاص، وكأنه بعد "وحدته الصلبة" يتفكك، وكأن نسيجه الاجتماعي يتمزق، وينحدر سياسياً إلى "الحرب الأهلية" والتقسيم.

اتخذت الصدمة طابعاً "شبه كارثي" بالنسبة لغالبية البلدان العربية والإقليمية، وتلقى البعض الصدمة باعتبارها إنذارا، وأنموذجاً قابلا للتمدد والتكرار في المنطقة. ولكي تعبئ تلك الدول المصدومة شعوبها ضد "الخطر الداهم"، فقد عملت على تكريس صورة للمشهد العراقي في أعقاب التغيير، صورة احتلال جاثم على بلد ويريد أن يتخذ منه منطلقا للعدوان ولاحتلالات أخرى، تستهدف تفكيك البلدان العربية و"تدمير طاقتها القومية العسكرية الضاربة" خدمة لإسرائيل والصهيونية العالمية، وتصفية القضية الفلسطينية.!

و بهذا التوصيف، الذي كان يراد منه التحلل من الاستحقاقات الديمقراطية الداخلية، كان الكثير من دول مجاورة وإقليمية تعمل على إبعاد خطر التغيير عنها، وذلك بتصدير أزمتها إلى العراق، وتأليب الأوساط "القومية"و"الاسلاموية" وحشدها ضد العراق الجديد، حيث كانت هذه القوى قد تواطأت، موضوعياً مع أغلبية البلدان العربية والإسلامية مع نظام صدام حسين، في مسلسل قمعه وتصفياته ضد العراقيين، تارة تحت شعار "الدفاع عن الجبهة الشرقية"، وطوراً لتحرير "القدس عبر البوابة الشرقية"، ثم في "الدفاع عن الوطن" في مواجهة الحصار الجائر الذي يهدف، هو الآخر دون عودة العراق "القومي" إلى التعبئة العربية في مواجهة إسرائيل.

وإذ سيقت هذه التوصيفات لما جرى في العراق، فإنها أغفلت وغيّبت عن المشهد الجديد، ما تحقق للعراقيين، بإسقاط النظام الدكتاتوري الأكثر قمعاً واستبداداً، بغض النظر عن عدم تمكن الشعب لأسباب ذاتية وموضوعية، من تحقيق تطلعه هذا، بإرادته وأدواته الوطنية، وليس عبر العامل الخارجي، وفرض "الاحتلال" الأجنبي، الذي لم يمرر في مجلس الأمن دون موافقة وتفويض عربي، رغم رفض القيادات العراقية الممثلة في "مجلس الحكم" وقتها واعتراضها على الاحتلال، وإعرابها عن مطالبتها باستعادة سيادتها، ورغم أيضا، أن الأرض العربية والمياه العربية هي وحدها التي كانت منطلقا لآلة الاحتلال العسكرية واللوجستية، وقبلها كانت البوابة الأمينة لتطبيق ولتشديد إجراءات الحصار على البلد.

لكن التوصيف الجديد، لم يكن ليستكمل، ويأخذ مداه الأوسع، في التعبئة والتحريض ضد الوضع العراقي الجديد، إذا لم يعزز بعنصر آخر يثير العواطف والعصبيات المذهبية، ويظهره كـ"امتداد طائفي"لإيران، وما يشكله ذلك من خطر وتهديد استراتيجيٍ للأمة العربية.!

ولإضفاء صدقية وقوة منطقية على التأليب والتحريض ضد العراق الجديد، سلطت الأضواء بقوة وخارج السياق الاعتيادي، على التغيير الذي جرى، في اصطفاف ومواقع القوى، في اللوحة السياسية العراقية وفقاً للتمثيل العددي، وما تضمنته من تنوع وتعدد المكونات وبروز بعضها، كقوة مقررة، من بعد ما طمست حضورها، العهود الدكتاتورية المتعاقبة، بدعاواها و"وحدتها الشكلانية" المبنية على أقسى أشكال القهر والتمييز الطائفي.

وفي لحظة خادعة، تحول كل الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة الأميركية، بمن فيهم، الدول التي تجمعها معها، أحلاف واتفاقيات عسكرية، وتُقيم على أراضيها قواعد عسكرية تضم احدث الأسلحة الضاربة، وأرقى التكنولوجيات العسكرية، إلى مناهضين للاحتلال الأميركي للعراق، وداعمين "للمقاومة" التي ضمت بقايا البعث ونظام صدام حسين، والقاعدة وكل زمر التكفير والإرهاب وفضلات الأنظمة الاستبدادية.

وإذا كان هذا كله، مفهوماً كرد فعل سياسي، على تحولٍ جديد خطير، قد تتحرك رياحه، دون قصد أو نوايا مبيتة، نحو بلدان بعينها تعاني من أوضاع، ترى حكوماتها، أنها قد تكون مشمولة بالتغيير، وان العدوى العراقية يمكن أن تنتقل إليها، إلا أن التهييج العربي والإقليمي، ضد الشعب العراقي، تحت واجهة الاحتلال، والتشنيع ضد أكثريته الشيعية واستفزازهم بوصفهم "باللا وطنية، واللا عروبية، وبعملاء الفرس المجوس"، شكل منعطفاً خطيراً في الاستقطاب الطائفي، وعبأ الشيعة بغض النظر عن الانتماء الفكري والسياسي، أحيانا، في مواجهة التحريض والتعبئة المضادة، التي تحولت، عبر تشجيع قطعان التكفيريين والإرهابيين ومدهم بكل أشكال الدعم المادي والسياسي والإعلامي واللوجستي، إلى خطر مباشر يستهدف وجودهم، ويشكك بحقهم في ممارسة دورهم في العراق الجديد. وفي المقابل أدى هذا التهييج والتحريض الطائفي العربي والإقليمي، إلى استنفار المكونات الطائفية الأخرى وتخندقها، موحياً ومشجعاً للبعض،  بإمكانية إعادة الوضع القديم إلى ما كان عليه سابقاً.

(٢)

لقد أدى هذا النفير العربي والإقليمي إلى تأجيج النزعة الطائفية في العراق، وتحويلها، خارجيا، إلى عامل آخر من عوامل تعميق الانقسام في العالم العربي، وتبديد جهوده. لكن عاقبته على الشعب العراقي، تمثلت في المزيد من الاستقطاب الطائفي، ونجم عن ذلك تكريس دور متزايد للطائفية في الحياة السياسية، وفي قيادة الدولة.

كان العامل الداخلي، مهيئاً لمثل هذا التطور السلبي، فالشعور الدفين، بالمظلومية والتمييز السافر والإقصاء المتلازم مع أبشع صنوف القمع والتصفيات والتعسف المفرط، حتى إزاء أداء فروض الطقوس المذهبية، الذي مارسته الأنظمة الاستبدادية "وحيدة الطائفة" أعاد إلى الوعي الجمعي، للطائفة الشيعية، الإحساس بالخطر من الاستهداف والتحسب من عوامل الردة. كما ألّب بالمقابل الأوساط العربية السنية، على تأطير نفسها سياسياً، والميل نحو التخندق والمواجهة، مما خلق البيئة الموضوعية المناسبة، لنشاط القاعدة وفلول البعث والنظام السابق وكل الزمر المناهضة للخيار الديمقراطي. وكان هذا كافياً لدفع البلاد إلى أتون مواجهات مضنية، مأساوية، لتصفيات واسعة على الهوية، بعد أن اختفت هوية المواطنة، وحلت مكانها هوية الطائفة. ودخلت البلاد مرحلة هيمنة الهويات الفرعية بكل تجلياتها، ووجدت لها تعبيراتها السياسية "المرادفة" فيما عرف من حينه، بـ"المحاصصة الطائفية،"، والذي أعيد نحته، بعد تراجع النزوع الطائفي ، وتبشيعه حتى عند أولي أمره ليسمى بـ" التوافق الوطني" بدلاً من مرادفه الفض الفعلي السابق.

(٣)

لقد مر أكثر من ثماني سنوات على التغيير الديمقراطي، والبلاد في حالة سيرورة متعثرة، شديدة التناقض، في أدواتها ومفاهيمها وتركيبتها، والتنافر بين عناصر منظوماتها القيمية والسياسية، دون أن تتجاوز، مفهوم "المحاصصة" إلى صيغة "التوافق الوطني" ، لا كمرادف للمحاصصة، بل لتجسيد الوحدة الوطنية الحقيقية، على قاعدة المواطنة الحرة، عابرة الطوائف والمكونات، والمجسدة لتنوع هوياتها، وثقافاتها، وآمالها، ومصالحها، ونزوعها الوطني. ورغم إقرار أحزاب الطوائف، عملياً بعزوف المواطنين عن التماهي مع الطائفية في السياسة وفي الممارسة الحياتية، ونفورهم من دعاتها، ولجوء الأحزاب المذكورة في انتخابات المحافظات والانتخابات التشريعية الأخيرة، إلى طرح تسميات وبرامج وشعارات "وطنية" بديلة، إلا أنها ظلت في واقع الحال على ما كانت عليه "طائفية" النزوع والبرامج والهوى. بل أن سلوكها في التطبيق العملي، عكس ميلاً أشد وأوضح، نحو  تنظيماتها وعصبياتها.

وكانت القواعد الانتخابية للطوائف السياسية، تتطلع إلى جني ثمار تضحياتها وصبرها، في أعقاب تشكيل الحكومة الحالية، التي سميت بحكومة الشراكة الوطنية، تقرباً من المواطن وتيمناً بالوطن، كما توهمت، لكن، وبعد مرور سنة تقريباً على الانتخابات، اكتشف هؤلاء المواطنون، عابرو كل الطوائف، أن حالهم يزداد سوءاً وتدهوراً،  وأن حكوماتهم المحلية التي جاءوا بها، تحت شعارات الوطنية والقانون والمواطنة، تغرق في وحل فساد أدارتها، ولا تكتفي بتوسيع عبثها بمصالحهم، بل تتجاوز على حرياتهم، وتجعل من سلطتها الموكول لها تأمين الخدمات، ومعالجة الثغرات، رقيباً على ضمائرهم، وسلوكهم ودينهم، ولم يصيبوا من الحكومة المركزية، التي لم  تستطع "إكمال عدتها" بعد، سوى الوعود والخيبة، دون أن تعير حتى الانتباه، إلى شكاواهم من عسف وفساد الدوائر والوزارات والحكومات المحلية التي هي امتداد لتحالفاتهم.

(٤)

وفي مواجهة هذا الواقع المرير، لم تجد مختلف الأوساط والشرائح الاجتماعية، المهمومة، بالحرمان والبطالة وغياب الخدمات، والنهب والفساد المستشري في الدولة والنخب الحاكمة باسمها، غير وسيلة التظاهر لعرض حالها، والاحتجاج على إصرار أولي الأمر، دون وجه حقٍ، على تجاهل مطالبهم وتسويفها، بالمماطلة وتشكيل اللجان، والتأجيل.

وفي هذه المواجهة بوسيلة الاحتجاج والتظاهر، التي تداعوا للانخراط فيها، بدافع التشارك في المظلومية والحرمان والجور والتعدّي على الحريات، توحدت الإرادات، والأصوات والشعارات، خارج خيارات الطوائف، وبعيداً عن تخومها، ورغما عن ممانعتها، وتحريمها.

 إن هذا الخروج على المألوف السياسي السائد منذ التغيير عام ٢٠٠٣، يشكل نواة تحرك شعبي في اتجاه إعادة الاصطفاف الوطني على حساب الاصطفاف الطائفي، وبدء حراك يتسع، مع تعمق الشعور الشعبي، بوحدة المصالح والتطلعات والهموم، وانزياح الهواجس وترسبات وأوهام التعارضات الفرعية والطارئة والمختلقة. ومن شأن هذا الحراك وتطوره معافاة الحياة السياسية، وخلق البيئة الملائمة، لإعادة الاعتبار للمواطنة الحرة، وانجاز "مصالحة مجتمعية وطنية" بديلة عن المصالحات السياسية الفوقية المعزولة، أن يكون هو الكفيل بتكريس وحدة المجتمع العراقي على أسس ديمقراطية، وتوافق وطني.

 وتلعب الحركات الاحتجاجية، بين الأوساط الشبابية والمثقفين، دوراً بارزاً في إنضاج وتعميق هذا الحراك الديمقراطي، وتوسيع دوائره وبلورة برامجه وشعاراته، وتوحيد الأهداف، وتجنب الخوض في التناقضات الثانوية والطارئة.

إن القوى المغيبة في الحياة السياسية، والمهمشة في قاع المجتمع، تمردت على واقعها المضني، تحت ضغط حاجاتها المعيشية، وشعورها بالضيم، وهي إذ فعلت ذلك، فإنها التقطت لحظة الترابط مع آخرين، لم تتوقف عند انتماءاتهم، أو هوياتهم ، أو مكوناتهم، بل وجدت نفسها على امتداد الوطن، في سائر المحافظات، يجمعها صوت واحد، لا تخدشها التمايزات التي تصنفها وفقاً للهويات الفرعية، وليس المصالح المشتركة. وفي هذه اللحظة الانتقالية، اكتشفت سر قوتها، التي تمثلت في وحدة إرادتها، غير المسيّرة، غير المصادرة من دعاة "العزل الطائفي".

 وعلى العناصر والتجمعات الأكثر وعياً، بين الشبيبة والمثقفين، تحويل هذه اللحظة، إلى وعي باتساع الوطن، وتضييق "الفصل الطائفي"، والانسلاخ من المجتمع.

إن الشعوب إذ تتعولم، وتتفاعل في رحاب قرية إنسانية عاقلة وعادلة، ومنغمرة بالعلوم والمعارف والثقافة والفنون ومنجزاتها الرائعة، فإنها لا تفقد هوياتها ولا خصائصها، وإنما تسمو بها وتتلاقح مع ما بلغته الحضارة، وترتقي بعناصر هوياتها، لتحصنها من الذوبان، ولتتحدى صروف الانتهاك، بفعل العزلة والتخلف، والاستعصاء على التفكك والتواري.

ومثل ذلك، التقابل بين الفصل و"العزل الطائفي" ورحاب التفاعل الوطني.

فالعزل الطائفي، بكل تجلياته، لا يستطيع أن يبني وطناً، بل يحول الطائفة نفسها إلى خنادق تفرقها المصالح، يضيع فيها المحروم والمنكوب، ويهيمن عليها ويسلب إرادتها، ملوك وأمراء خنادقها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram