فخري كريم
لست في وارد تزكية السياسة التركية، أو التدخل في شؤونها، مع إني ممتعضٌ من تدخل وزير خارجيتها الفظ في الشأن العراقي،
واسمي وزير الخارجية بالتحديد، لان القيادة التركية أنكرت علمها أو موافقتها على رعاية طرف عراقي واحتضانه إبان الانتخابات الأخيرة، وهو ما تفاخر به وزير الخارجية في أكثر من محفل.. كما لا يمكن نسيان التحرك غير اللائق للقنصل التركي في كركوك عشية الانتخابات وخلالها. لكنني مغتبطٌ بالسلوك الحضاري
للسيد رجب طيب أردوغان ولنهجه في الحكم، وفقاً لتوجهاته الفكرية والسياسية من دون أن يعني ذلك اتفاقي معها وتحبيذي لتفاصيلها.
إن اهتمامي ينصب على ما يشكله أردوغان من نموذج سياسي إسلامي، وهو على رأس الدولة، وكيف يوائم بين إسلامه ومقتضيات قيادة دولة علمانية واحترامه للمبادئ والقواعد الديمقراطية التي تستلزمها إدارة الدولة والصراع مع القوى والأحزاب والكتل السياسية في البرلمان والحياة السياسية ، وهي لا تلتقي معه ولا تشاطره نهجه وسياساته وفكره الإسلامي.
لقد استطاع أردوغان وغول وزملاؤهما في حزب العدالة والتنمية، خلال فترة وجيزة من إحراز نجاحات بارزة على الصعيد الاقتصادي وتعزيز مواقع حزبهم والحفاظ على زخمه بين أوساط الرأي العام، وتحقيق تطور ملموس في معالجة قضايا ظلت تؤرق المجتمع الدولي، وتشكل عائقاً في طريق إعادة الاعتبار لتركيا واقترابها من معايير الاتحاد الأوربي الذي تسعى للانضمام إليه، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من القضية القومية الكردية والسعي للتقدم خطوة جدية في اتجاه تحقيق مطامح الشعب الكردي وتطلعاته القومية المشروعة. ويحسب لهم ما أنجزوه بصبر وحنكة في لي الذراع العسكري المتحكم في مسارات البلاد، وإعاقة تطورها الديمقراطي مع الحفاظ على طبيعتها العلمانية المدنية.
إن أردوغان وكذلك غول، بوصفهما تجلياً للظاهرة الإسلامية التركية، ويمكن أن يتحولا إلى مثل يحتذى، لم يتخليا عن عقيدتهما الإسلامية، ولا طقوسها وشعائرها ، لكنهما لم يحولاها إلى "مراسيم" جمهورية ولا قرارات حكومية ملزمة، ولا حولا الوزارات ومكاتب مؤسسات الدولة إلى شبه جوامع ومساجد ، وإذ تمسكا بحجاب زوجتيهما كحق شخصي يكفله النظام الديمقراطي، فإنهما لم يفرضا، وحزبهما يشكل الأكثرية البرلمانية المريحة، الحجاب على التركيات أو يسمحا للوزراء بفرضه على الطالبات الصغيرات، أو يلزما الموظفات في الدولة بمراعاة "الحشمة" في ملابسهن ومنع دخول السافرات منهن إلى دوائر الدولة أو يتخذا قراراً بفصل الإناث عن الذكور في المدارس الابتدائية أو يفكرا بإلغاء معاهد الموسيقى والمسرح وإزالة تماثيل الفنانين الكبار، ولم يلغيا مهرجانا دوليا كان فيه رقص، ولم يطلقا عصابات خفية تهاجم نوادي المسيحيين والأقليات الأخرى كما فعل رئيس حكومة بغداد.
ورغم إنهما إسلاميان بحق فأنهما لم يسمحا بعودة تركيا إلى عصور الجاهلية، بمنع الفنون، غناءً ورقصاً وتمثيلاً وكل ميادين إغناء حياة الناس الروحية. وأصبحت تركيا بفضل تفتحهما وحرصهما على ازدهار بلادهما منتجة لأفلام ومسلسلات تلفزيونية غزت البيوت العربية والعراقية منها، ونسبة المشاهدات لها بين المحجبات تفوق السافرات. ثم أن أردوغان وغول مسلمان لا يحتسيان الخمر، لكنهما لم يمنعا وجوده على موائد الضيوف، ولم يتخذا أي إجراء للتضييق على من يتناوله أو من يبيعه، وفي عهدهما اتسعت السياحة على نطاق واسع.
أردوغان الإسلامي، خلافاً للإسلام السياسي في العراق، ولحكام العرب المقنعين في بلدانهم وأمام شعوبهم بلبوس الإسلام، لا يعتبر إسلامه "للتصدير" وإنما يتحرك في كل الاتجاهات، في العالم العربي وفي المحيط الإقليمي وفي العالم لتصبح تركيا "دولته" لاعباً إقليمياً ودولياً بامتياز، مقدماً نموذجاً للإسلام السياسي دون اعتمار عمامة، أو توزيع مصاحف على الزوار والضيوف أو أثناء تجوله في البلدان الأخرى.
رجب طيب أردوغان وغول ، لا يلتحيان ولا يقطعان اجتماعاتهما الرسمية أو يتركان أقرانهما الضيوف أو المسؤولين الأجانب ينتظرون لكي يؤديا الصلاة، لست على درايةٍ بالأمر فلعلهما يعتبران ممارسة الشعائر الدينية فرضاً بينهما وبين ربهما، لا يتحمل الادعاء والنفاق أو إنهما يراعيان ما يفرضه عليهما عملهما الرسمي الذي يتقاضيان عليه أجورهما من فائض ما يدفعه الناس من ضرائب، وقد يكونان متأثرين بما رآه الإمام علي، وهما من المذهب السني، إذ قال "الساعات ثلاث ساعة لربك وساعة لعملك وساعة تستعين بها لهذين الأمرين" علماً أن بعض شيعة علي من قادة دولتنا وموظفيها لا يمتثلون لهذا القول للإمام العظيم ومن يزور مكاتبهم يشاهد بأُم العين الدليل على ذلك!
هذا هو أردوغان ، الإسلامي بوجه حضاري وهذا ما عليه حزبه ومناصروه. فماذا عن حكام العرب، متجاوزين إسلاميينا الحكام في العراق لأننا نعرفهم وجهاً لوجه؟ إن كلاً منهم وليٌ على قومه، لا تغادر الموعظة عظمة لسانه في الأوقات الثلاث، وفي الأعياد والمناسبات ، وفي التصديق على احكام الحد في حالات اقتراف الزنا والمنكر ، لكنهم متهتكون في اسرافهم ومجونهم وميسرهم ، نهابون لثروات شعوبهم يبددونها على لهوهم ومجونهم .
أنهم "إسلاميون" بامتياز في إقامة الحد الجماعي على شعوبهم وتجريدها من الحريات ومن الحقوق في الحل والترحال.
خذوا مثلاً عليهم ممن تساقط أو في طريقه للسقوط من المستبدين وزوجاتهم وعيالهم: بن علي ومبارك والعقيدين معمر وعلي صالح ، ولعلي معذورًٌ في أن أتجنب الخوض في مصائر غيرهم من الملوك والأمراء والرؤساء ممن ابتلتنا سوء الأقدار بهم، ولعل عاصفة الغضب تتولاهم عنا.
بقي ألا أنسى أن أردوغان في الحزب، قائد حزبي يحرص على أداء فروض عمله الحزبي، لكنه خارج الحزب.. رجل دولة .
أردوغان..أيها الإسلامي التركي، ويا رجل الدولة العلمانية، لك من مواطن عراقي علماني تحية تستحقها كرجل دولة متحضر ومثلها لزميلك غول ولمنتسبي حزب العدالة والتنمية.
وعسى أن يرزقنا الله وقوانا الإسلامية بمن هو مثلك، ونتمنى أن تكون قوانا قادرة على ذلك.
إن الله على كل شيء قدير