فخري كريم
(1)
يقترب موعد استحقاق جلاء القوات الأميركية عن العراق ، وفقاً للاتفاقية الإستراتيجية المبرمة بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة الأميركية،
التي تنص على الانسحاب الكامل لما تبقى من القوات على الأراضي العراقية نهاية عام ٢٠١١ . ومثلما اقترن طرح الاتفاقية للحوار، ومن ثم المصادقة عليها في البرلمان ، بسيل من السجال بين المعترضين والموافقين على استحياء ، وعاصفة من الغضب والهجوم والتهديد ، فان إثارة احتمال التمديد
أو التأجيل أو المماطلة المبطنة للاتفاقية ، أظهرت احتقاناً مبيتاً ، يتجاوز موضوع الانسحاب ، ليدفع الى ما هو ابعد من ذلك، ويكشف عن نوايا وتوجهات تطول ما هو قائم من تحالفات واصطفافات.
لقد تمت معالجة هذه القضية الحساسة للغاية وقتها عند مناقشة تمرير الاتفاقية ، في جو لم يتسم بما يقتضيه من مراعاة المصلحة الوطنية ، أو ينطلق من ضرورة قبولها أو رفضها بناء على مقتضيات حفظ الأمن والتصدي للإرهاب، ومدى استعداد وجاهزية قوى الأمن والشرطة والقوات المسلحة العراقية لمثل هذه الأدوار المطلوبة منها، سواء على صعيد حفظ الأمن الداخلي أو الخارجي، في حالة الانسحاب الأميركي، ويتكرر اليوم نفس المشهد مع بعض التغيير في التفاصيل ومواقف القوى.
إن هذه القضية الحيوية والحساسة ، مثل غيرها الكثير ، تصبح ضحية الصراعات الخفية على السلطة ، وتأخذ في الغالب طابع المزايدة وادعاء الغيرة على سيادة واستقلال البلاد والمصالح الوطنية العليا، حتى حينما يكون جلياً أن مضامين المزايدات والادعاءات المطروحة من هذا الطرف أو ذاك لا تنسجم مع الوقائع الملموسة على الأرض . بل أكثر من ذلك إذ يتبين أن المستور من المواقف، لدى البعض، لا يشبه ما يعلن عنه من سياسات . ولا يستبعد أحيانا أن بعض القوى التي تتبنى موقفاً مضاداً ، عند معالجة أمر مصيري ، كما كان شأن الاتفاقية الأمنية ، تعي أن موقفها لا يؤثر في تمرير أو إعاقة إمرارها ، بسبب توازن القوى التصويتية في البرلمان ، مما يجعلها تشدد من رفضها أملا في إحراز مكاسب " شعبوية "، وإحراج الخصوم، ولو أدى هذا التشدد، الذي تبديه قوى بعضها يشتم الاحتلال علنا ويمالئه سرا، الى تعريض العملية السياسية لمخاطر وتصدعات.
إن المواطنين يتذكرون التنابزات السياسية التي ظلت تخدش آذانهم طوال أشهر ، والمزايدات التي اقترنت بتلك المناقشات . والتي أظهرت رفض الجميع تقريباً للاتفاقية الأمنية ، ثم كيف تمت المصادقة عليها في أجواء صاخبة خرج على إثرها المعارضون محتجين بعد التصويت بالضد.
ورغم التصويت بنعم ، والتصويت بلا ، فان الشعب لم يعرف ما اذا كانت الاتفاقية الأمنية مع الولايات الأمريكية يوم مصادقة البرلمان عليه ، تعبر عن المصلحة الوطنية من خلال مقاربتها مع الوقائع الأمنية والعسكرية أو تتعارض معها .ويعود السبب في ذلك الى أن كل طرف تقريباً لا يأخذ بالاعتبار تلك المصلحة ، والحاجات الأمنية للبلاد ، ويتعامل معها بشفافية أمام المواطنين دون اعتبار لانعكاس موقفه على "شعبيته " سلباً مادام يرى فيما يتخذ من موقف يصب في مصلحة البلاد ويحفظ امن الشعب وسلامة العملية السياسية.
وبهذه الكيفية يجري التعامل مع سائر القضايا العقدية سواء في الحكومة أو البرلمان ، حيث تضيع الحقائق وتختلط الأوراق.
(٢)
لقد احتفت الأوساط الشعبية بإعلان السيد مقتدى الصدر بتجميد جيش المهدي وتحويل نشاطه الى العمل الإنساني والثقافي ، واعتبر كثيرون القرار "حلاً ضمنياً " له ، خاصة بعد عودة التيار الصدري للانخراط بنشاط في العملية السياسية وفي الانتخابات التشريعية وإحرازه أربعين مقعداً في البرلمان ومواقع مؤثرة " خدماتية " في الحكومة ، مما يساعد ويدفع باتجاه حل كل التشكيلات المسلحة والميليشيات وتعزيز دور الدولة التي تنتظر استكمال بناها الديمقراطية وإعادة توطيد أركانها على قاعدة المواطنة وتجاوز المحاصصة الطائفية وتصفية مظاهرها السلبية من الحياة السياسية.
إن تصريحات السيد مقتدى الصدر كانت تؤكد دائماً على تحرير البلاد من القوات الأجنبية ، ولا مراء في صدق هذا التوجه ، كما انه يؤكد الحرص على الوحدة الوطنية والحيلولة دون إمرار أية فتنة تؤدي الى تفريق صفوف العراقيين ، سنة كانوا أو شيعة ، مسيحيين أو صابئة أو ايزيديين ، عرباً أو كرداً ، دون أي تمييز بين المكونات العراقية . وفيما صدق البعض هذه المواقف..فإن بعضا آخر رآها مجرد مناورة سياسية لا تعبر عن واقع الحال ، ارتباطاً بممارسات يقوم بها بعض من يعلنون أنفسهم من الصدريين أو جيش المهدي . وقد انكشف الغطاء عن بعض هؤلاء ممن أعلنوا الانشقاق عن التيار والجيش أو وضعهم السيد خارجهما بسبب تصرفاتهم المسيئة وتعدياتهم على المواطنين . لكن أطرافا وشخصيات سياسية لم تشكك بمواقف السيد وراهنت على وجود حقيقي للتيار في الحياة السياسية . وكانت هذه الأطراف شديدة الحرص على أن تتطور المواقف المعلنة للسيد مقتدى الصدر لتأخذ أبعادها الكاملة بتحويل كل جوانب التكوينات التي تقترن باسم الشهيد الكبير آية الله العظمى السيد محمد محمد صادق الصدر، الى العمل السياسي التكويني المدني وترفد الدولة بطاقات وطنية منزهة من أي سلوك وتصرف لا يرتضيه ابن الشهيد أن تقترن باسم الشهيد الصدر ، خصوصاً أن كثيرين ممن اقتربوا من السيد مقتدى الصدر يؤكدون مدى حساسيته من العناصر الفاسدة والمتواطئة مع الفاسدين والمتورطين في التعرض للمواطنين أو المذنبين في استخدام اسمه أو التعكز على الدين والقيم الدينية وحشرها في مثل هذه الإساءات.
لقد عرف عن قاعدة التيار الصدري أصولها الفقيرة والمحرومة والمهمشة، وهي قاعدة تتشكل من سكنة المناطق والأحياء الأكثر بؤساً وانعداماً للخدمات ، وتعاني شبيبتها من البطالة والحرمان وصبيانها من الأمية وتعذر الفرص أمامها للانخراط في المدارس . وهذا التوصيف للبيئة التي تشكلت فيها قاعدة التيار والظروف القاسية لمعيشتها ، لا بد أن ينعكس على إطار التيار وكوادره وقياداته وتوجهاته وأساليب عمله بما يساعد على الاستجابة لمتطلبات حياة هذه الشريحة الهامة في المجتمع العراقي وتأهيلها للانخراط بوعي وكفاءة في الحياة السياسية المدنية ، والتحول الى قوة دفع للنظام الديمقراطي.
لكن الكثير من الممارسات والمظاهر المحيطة بالحركة لا تعكس هذا الواقع، مما يسهل على المتربصين بالتيار اعتمادها في التعريض به وتشويه صورته ، ولا يمكن أن لا يلاحظ السيد مقتدى ، وهو متابع دقيق لأصغر التفاصيل، كما يشيع عنه مريدوه، شيئاً من تلك المظاهر.
إن ما أنجز حتى الآن على صعيد تحرير البلاد من الاحتلال أو مظاهره السياسية ، لا تعود إلى أنصار حارث الضاري أو فلول البعث، كما يدعون، أو الميليشيات المسلحة الأخرى التي تسببت في مقتل عشرات الآلاف من العراقيين وخربت ودمرت البنية التحتية للعراق ، بل الفضل الأول والأخير يعود الى انحياز الأغلبية المطلقة من العراقيين والقوى الوطنية بمختلف تياراتها الى العملية السياسية السلمية والى مسار إعادة بناء الدولة الديمقراطية المدنية ، رغم تعثرها وعدم الرضا عن الكثير من جوانبها والمساعي التي لا تنقطع لحرفها وتخريبها ، كما أن ما بدا من مظاهر عودة اللحمة الى صفوف العراقيين ، يعود هو الآخر الى نجاح المساعي لتبشيع المواجهة والقتل التعسفي على الهوية الطائفية وهو جهد ساهم فيه السيد مقتدى بتصريحاته وتوجيهاته، رغم عدم التزام بعض من قواعده بذلك ممن أصبح العديد منهم خارج الحركة.
وتكريس هذا التوجه يتطلب تصفية أي أداة أو تنظيم أو ميليشيا، أيا كانت صيغتها من الحياة السياسية ، لان التلويح بها من أي كان سيحرض آخرين أو يتخذ عذراً لأعداء العراق الديمقراطي للعودة الى إحياء ميليشيات مقابلة ، ظاهرها " وطني " وحقيقتها " أداة مأجورة للقتل والتخريب والإجهاز على المنجزات الديمقراطية ، وهذا ما يفترض انه يتعارض مع التوجهات والمطامح الوطنية التي يعلنها ويؤكد عليها دائماً السيد مقتدى الصدر .
إن العراقيين التواقين لاستعادة السيادة الكاملة وتحقيق الاستقلال الناجز للعراق ، ويتطلعون الى لحظة استعادة الوعي بقيمه ، ينتظرون تضافرا للجهود لتحقيق ذلك بتأمين كل ما يتطلبه من تمكين الدولة والقوات المسلحة ومعافاة الحياة السياسية وإنهاء الفساد والنهب ومظاهر التعالي على المواطنين والتعدي على حرياتهم تحت أي مسمىً كان بما في ذلك ترويعهم وابتزازهم باسم الدين الحنيف.إن السيد مقتدى الصدر يدرك دون شك أن أي إيحاء بهشاشة الوضع الأمني واحتمالات انهيار العملية السياسية سيكون كافياً لتشجيع أوساط كثيرة للتشبث بالدعوة لبقاء القوات الأميركية ، وإقناع البيت الأبيض بإيجاد ما يبرر البقاء.