فخري كريم
كاد مجلس النواب في جلسته يوم الخميس، أن يرتكب فضيحة دستورية، وسابقة في التجاوز على مبادئ الدستور من شأنها أن تترك آثاراً مدمرة بعملية بناء دولة القانون والمؤسسات،
وتطيح بالعملية السياسية التي تتنافس الكتل السياسية البرلمانية، بمناسبة وبدون مناسبة على إعلان "أبوتها" لها . فقد أصر رئيس مجلس النواب، وبدعم من كتلته وبرلمانيين آخرين، على إمرار التصويت على نواب رئيس الجمهورية،
دون التوقف عند الخرق الفاضح الذي ارتكبه مرشحون للمنصب، بانتحال صفة "نائب رئيس"، إضافة إلى أن البرلمان لم يتفق بعد على كيفية التصويت عليهم. فالبعض يريد للتصويت أن يتم بـ"سلة واحدة" لضمان فوز الجميع، فيما يصر بعض آخر على التصويت على المرشحين، واحداً بعد الآخر، ثم يحتدم الخلاف، ليتناول صيغة الأولوية في طرح الأسماء، على قاعدة الحروف الأبجدية بتقديم اسم المرشح خضير الخزاعي، كما يريد الطرف المرشح للخزاعي، أو على أساس ورودها في كتاب الترشيح الرئاسي، كما يريد ذلك آخرون.. بينما يعترض طرف ثالث على مبدأ المرشحين الثلاثة أصلا ويرى أن نائبا أو نائبين يكفيان.
وسط هذه التفاصيل الخلافية أريد تمرير الترشيح والتصويت، ليستمر الجدل النيابي من دون أن يهتم بمدى سلامة ودستورية الترشيح والمرشحين، ومن دون أن يهتم بمقدار أهلية كل مرشح، من حيث الكفاءة والقدرة على القيام بمهامه الرئاسية، كما لم تجر مراجعة التاريخ السياسي والمهني لكل مرشح، وبينهم من تمسه عشرات الملفات المرتبطة بسلوكه وكيفية استخدامه لسلطته والصلاحيات التي تمنحها له والأضرار التي ألحقتها تدخلاته بأمن البلاد ومصالح المواطنين، وبينهم من أكد خلال تجربته الحكومية انه قد لا يصلح للقيام بمهمة موظف من الدرجة العاشرة، بعد الانتهاكات التي قام بها. هذه التوقفات كانت غائبة عن بال السيد رئيس المجلس بصفته القيّم الأول على إدارة البرلمان، وكذلك عن قادة الكتل المعنيين، كل من موقع مصالح كتلته لإمرار مرشحه، وهي ليست توقفات عند قضايا شكلية أو ثانوية، بل تمس صميم الدستور ومستقبل العملية السياسية.
إن تعليق وربط كل جوانب العملية السياسية، بما في ذلك تطبيق الدستور وصيانته من العبث الذي تفرضه "التوافقات" القائمة بشكل محاصصة، سيؤدي في نهاية المطاف إلى الإجهاز على الوضع القائم برمته، وسيحول الدولة نفسها، إلى توافق تجمعات مصالح خارجة عن الدولة، وهي توافقات تحتمي بما كرسته خلال هذه السنوات من تجاوز على الدولة التي لن يكتمل بناؤها ولا يستقر كيانها في ظل صيغة التوافق الجديد الذي سيحيلها حتما إلى مجرد كانتونات خارجة عن الطوائف.
لقد تعب المواطنون من المطالبات المستمرة بالإصلاح السياسي ومكافحة الفساد ونهب الدولة، لأنهم يدركون أن أي طرف سوف لن يتعرض للفاسدين من الطرف الآخر، لأنهم "متوافقون" على الفساد أيضا، ولهذا تجري المراهنة على أن مجلس النواب لن يخذلهم في اخطر مفصل من مفاصل الدولة والمتعلق بحماية الدستور من الانتهاك في قضية واضحة لا لبس فيها، ولا تحتاج إلى شهود أو إماطة اللثام عن وثائق سرية، لان هذا الانتهاك يجري علناً أمام أنظار الناس في وسائل الإعلام يومياً وأمام المحافل الدولية وفي الزيارات الرسمية وفي اللقاءات مع السفراء والوفود الزائرة، وفي المخاطبات الرسمية مع دوائر الدولة ومؤسساتها، والبرلمان وقادته شهود على هذه الممارسات. إن استعجال رئيس البرلمان على حسم الترشيحات لمنصب نواب الرئيس، ما هو إلا انتهاك آخر للدستور، وهذه المرة من قبل السلطة المنوطة بها حمايته والسهر عليه، وهذه السلطة ورئيسها هما المعنيان بملاحظة ومتابعة أي مظهر مخل بالدستور، ويفترض برئاسة البرلمان الإطلاع يومياً على تقرير من المستشارين الأفاضل الكثر يكشف تلك المظاهر ويضع تحت تصرفها مقترحات ملموسة لكيفية التعامل معها ومع نتائجها وعواقبها.
إن ادعاء رئاسة البرلمان بأنها لم تتسلم أي إشعار من القضاء، حول دعوى مقامة على المرشحين لمنصب نائب الرئيس أو أي حالة مشابهة تتعلق بقضية مطروحة على البرلمان باطل، لان رئاسة البرلمان معنية بتدقيق سيرة المرشح من كل جوانبه وعدم الاكتفاء بتزكية الكتل لهذا المرشح أو ذاك . ومثلما تحتاج معاملات بسيطة لأي مواطن في حالات التوظيف والشراء أو البيع أو أي معاملة تمس مصالح الناس أو الدولة أو طرفا ثانيا مراجعات وتدقيقات فان انتخاب مرشح لمركز سيادي خطير يحتاج إلى تدقيق ولو بمستوى "بيع وشراء" عقار! أو إصدار هوية أحوال مدنية أو حتى الحصول على بطاقة تموينية وبطاقة سكن!؟
لقد فاض الكيل، وتدفق الغضب حتى كاد يخرج الناس عن أطوارهم، على ما يصيبهم يومياً من الحرمان وغياب الخدمات والتعدّي على الحريات، على نهب المال العام الذي يحرمون من خيراته، وعلى تحويل الدولة ومؤسساتها إلى إقطاعيات عائلية، وعلى البطالة وشظف العيش، فإلى أين تريدون دفع المواطنين بعد هذا أيها السادة البرلمانيون وقادة الكتل؟
أيها السادة النواب، آن الأوان لتقدموا معاً، دون استقطابات طائفية وغيرها، بل كلكم، مثلاً واحداً، أمام شعبكم الملتاع والجائع والحائر والموجوع حد الأنين والاستجارة، على أنكم نواب العراق الديمقراطي الجديد، تجمعكم الإرادة الموحدة، لإعادة معافاته وتوحيد لحمته وتمتين تماسك نسيجه الوطني، وفي هذا وحده خلاصنا جميعاً وتحولنا نحو مشارف الدولة التي يتطلع لاستكمال بنائها العراقيون دون استثناء.
أيها السادة النواب:
لا تنفّرونا من هذا الوطن، ولا تدفعونا إلى الاستقالة منه.
وإذا ما حدث ذلك فلن يبقى لأحد منكم سوى بقايا أطلال أو ظل وطن.