TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > الافتتاحية:من حلم الخلود في الرئاسة إلى قاعات المحاكم..الكراسي التي تعلم على الجريمة

الافتتاحية:من حلم الخلود في الرئاسة إلى قاعات المحاكم..الكراسي التي تعلم على الجريمة

نشر في: 19 إبريل, 2011: 07:28 م

فخري كريم

لا المنجمون، ولا منظرو السياسة، ولا المهتمون بالدراسات المستقبلية كانوا يحسبون هذا المصير الذي انتهى إليه في غضون أسابيع اثنان من دكتاتوريي العرب،

فيما يقف زملاء آخرون لهم في طابور الجحيم ينتظرون مصائر ما زالت مجهولة.

أكثر من ربع قرن على الكرسي الأول في تونس ومصر، وليس بأقل من هذا الربع على كراسٍ متقدمة في إدارة الدولتين، عسكرياً وحكومياً واستخبارياً، سنوات وعقود طويلة، انسحقت خلالها ملايين تحت وطأة الجوع والحرمان والقمع، ومات آلاف في سجون علنية وسرية، ونفيت آلاف أخرى في أصقاع المعمورة.. والرجلان على كرسييهما.

لم يتخيل بن علي، ولا مبارك هذه النهاية التي لم تكن في حسبان أقرب المقربين ولا أبعد الأبعدين، ولم يعتد العرب ولم يألفوا مثل هذه الطريقة المباغتة في التغيير والثورة، ولم تعتد السلطات على هذا الأسلوب في مغادرة كرسي الحكم، لغة الانقلابات ومحاصرة القصر الجمهوري أو الملكي واحتلال مبنى الإذاعة ومصرع الحاكم هي النهاية الأكثر مأساوية التي يتحسب لها الطغاة، وسوى هذا فإن الموت على السرير آخر ما يفكر فيه هؤلاء الذين صوّر لهم طول مكوثهم على الكراسي أنهم خالدون فيها، وقد يجاملون الأقدار بالدعاء الذي ألصق وراء صفة كل منهم (حفظه الله ورعاه) ليزدادوا اطمئنانا على اطمئنانهم الواثق بالخلود والبقاء.

كل ميزانيات الدول وكل جهودها الاستخبارية والعسكرية والأمنية والسياسية تذهب إلى العمل على درء مواجهة المصير الأسوأ (الموت بانقلاب عسكري وخسارة الحكم والدنيا)، وكان للعمل من أجل هذا أن المجال مسموح لقوى الأمن والمخابرات لاعتقال الناس وتغييبهم في السجون لسنوات وعقود لمجرد الشبهة والظن، وإلا فأن الموت هو مصير من يثبت أنه تجرأ وفكر بما لا ينبغي حتى مجرد التفكير به، تغيير السلطة أو الانقلاب عليها.

لكن الانقلاب جاء، خارج كل التوقعات التي رصدت لها الميزانيات والجهود والمؤسسات.

كانت مفاجأة، وكانت المفاجأة الأخرى أن يسمح للطاغيتين، مبارك وبن علي بمغادرة السلطة بهدوء، اختار معه بن علي طائرة لتقله إلى المملكة العربية السعودية، بينما آثر مبارك البقاء في شرم الشيخ، قريبا من مجد مضاع وسلطة ذهبت لينام على تخوم آخر قمة كان قد ترأسها قبل أسابيع في المنتجع السياحي الأجمل في مصر.

الحياة خارج السلطة التي أدمنها الرجلان لم تكن يسيرة.. لم يفكرا بكتابة مذكرات، بالتأكيد أن حلم العودة إلى السلطة بانقلاب يدبره المتروكون في القاهرة وتونس من الأتباع هو الأكثر هيمنة على مخيلة الرئيسين اللذين كانت حياتهما على كرسي السلطة عملا وسعيا لتفادي الانقلاب الذي جاء بهما إلى حكم مصر وتونس.. لم يفكرا بقضاء آخر العمر بهدوء وسكينة وراحة بال.. هجمت عليهما الأمراض التي كانت تخشى الاقتراب من جسديهما الرئاسيين، وانشغلت العائلتان الطريدتان بالصراع وتبادل اللوم والتقريع، وربما بالتآمر على بعضهم للظفر بالمليارات التي تسربت من خزينة أفقر شعبين عربيين ماديا، ولكن من أغنى الشعوب روحيا وثقافيا ومعنويا.

لكن الكارثة التي كانت هي الأخرى خارج الحسابات والتوقعات هي كارثة السجن والمحاكمات العلنية التي تنظر الرئيسين المخلوعين المتهمين بقضايا فساد مالي وإداري وسوء استغلال السلطة وبإطلاق أوامر بالقتل وتصفية الخصوم وسوى هذا مما يمكن أن تكشف عنه الأيام المقبلة.

الضغوط تزداد في تونس لجلب بن علي ومحاكمته، بينما نجحت ضغوط المصريين في وضع مبارك وأفراد أسرته على لائحة الاتهام وأمام محققي القضاء المصري.. وقد يجد مبارك ملاذه الأخير في المرض وانتظار الموت على سرير مستشفى عسكري لينقذه من المثول أمام قاض مصري، لكن الأولاد في الحبس على ذمة التحقيق وسط جوقة من المقربين الذين لفهم الحزب الوطني الديمقراطي المنحل منذ يومين، وكلهم ينتظرون مصائرهم أمام القضاء.

تقاليد التاريخ القديم والعصور الوسيطة هي ما جعلت دراما شكسبير تنتهي دائما بالموت والقتل وسيول الدم على المسرح.. هذه الدراما لم يسعفها تاريخها لتصور المصير الفجائعي الذي انتهى إليه رئيسان عربيان سبقا آخرين ينتظرون نهايات غامضة.

يخاطب العقيد الليبي شعبه المنتفض: من أنتم يا جرذان؟ أنا القائد.. وقبله كان صدام وفي قاعة محاكمته لم يستطع أن يتخيل أن قاضيا عراقيا يقول له: اسكت لا تتكلم حتى آذن لك.. وبين الاثنين كان مبارك في أول أيام التظاهرات المصرية يقول: ما عليش شوية عيال!!

ومن القذافي إلى مبارك إلى عقيد اليمن، كان الجميع يقولون عن التظاهرات إنها خروج على الشرعية.. ونسي جميعهم أنهم يتحدثون عن شرعية كانت قد ديست بأحذيتهم وأحذية جنودهم حين جاءوا بانقلابات عسكر إلى سلطة مغتصبة ليحيوا على وهم الخلود بهذه السلطة.. لقد أرادوا نيل الخلود من خلال إعداد أولادهم لحكم لا ينبغي له أن يخرج عن هذه السلالة بدمها الأزرق.. لكنهم بهذا دمروا السلطة ودمروا بلدانهم ودمروا مصائرهم ومصائر أولادهم وعائلاتهم، مثلما فعل مثالهم صدام الذي مزق البلد والعائلة وانتهت بناته كل منهن تحت سماء غير سماء أمهن وأخواتهن.

يا لهؤلاء الحكام الذين لا يتعظون، وإلا كيف نفسر هذا الجنون الذي يمضي فيه عقيدا ليبيا واليمن وأمام أنظارهما مصائر بن علي ومبارك وقبلهم جميعا صدام.

لقد أراد الجميع إعداد أسر ملكية، فانتهوا إلى إعداد أولاد مجرمين تطاردهم لعنات شعوبهم، ويتربص بكل من هؤلاء الأولاد النزقين الموت أو الحبس.

فهل ثمة من يتعظ؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram