سامي عبد الحميد
كان الأديب والروائي الراحل (جليل القيسي) نموذجاً بل مثال للفنان المتواضع ناكر الذات . كان أحد أبرز المبتكرين والمجددين في ميدان السرد العراقي
ولكنه للأسف لم يحظَ بالشهرة المستحقة التي حظي بها معاصروه وأستطيع القول بأن العديد من المشهورين قد تعلّموا منه فنون السرد وقد بزهم في الفن الدرامي، فقد كتب ونشر عدداً من المسرحيات التي تصل في مستواها الفكري والفني إلى مصاف نتاج مشاهير الدراما العالميين أمثال (بيرانديلو) و(أونيل) و(بريخت) و(بيسكاتور) و(جيكوف) وآخرين .
ومثال لتواضعه ونكران ذاته كان قد كتب مسرحية عن عبور الجيش المصري لقناة السويس ودحر الجيش الاسرائيلي وأرسلها لي كي أبدي رأياً فيها مع رسالة قال فيها "ويسعدني أن أسمع رأيكم حولها كتابة" حالما تُسنح لكم الفرصة" وفي رسالة أخرى أرسلها إليّ أشار فيها إلى المسرحية نفسها قال: "هذا فيما إذا ارتحت لها ، أقول لا أجد من هو أقدر منك في تفجير وتجسيد ومسرحة تشابكات الكونشورتو المعزومة هنا عبر أربع شخصيات رئيسة .. وقد يكون ثمة صعوبة في تقديمها.." .
يذكر بعد ذلك إنه لم يضع عنواناً للمسرحية وبعد أن قرأت النص واعجبت به أخترت له العنوان (جد عنواناً لهذه التمثيلية) وافق عليه مسروراً . وكان القصد من المسرحية تمثيلية عبور قناة السويس الذي أعتبر بوقته نصراً للجيش المصري بيد أن (القيسي) في المسرحية راح يهزأ من ذلك النصر المفتعل فقد استشهد العديد من أفراد الجيش المصري ، في تلك المعركة بينما بقي الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية على حاله. ويقول أحد الجنود المصريين الجرحى: "نحن موتى أيها السيد، نهضنا من فوق رمال سيناء الحبيبة ، نريد أن ندفن بسلام في مقابرنا . أجل .. كل في مدينته. أعطوا الأوسمة إلى الأحياء من الأبطال" ويرد عليه جندي آخر قائلاً: "ترى ما ثمن تلك الجثث والدبابات وذاك القتال الشرس لأيام... أين نتيجة الحرب" .
نشرت المسرحية تلك مع مجموعة أخرى من مسرحيات جليل القيسي وقد حملت عنوان (ايها المشاهد جد عنواناً لهذه المسرحية) . نشرتها دار الرشيد عام 1979 بينما أنتجتها فرقة المسرح الحديث قبل ذلك بثلاث سنوات وعرضت في مسرح بغداد مع مسرحيته الطليعية الأخرى (جيفارا عاد افتحوا الأبواب) التي يتعرض فيها للثائر اللاتيني (شي جيفارا) ذلك الذي ودّع العالم بثورته ضد الظلم والاستبداد .
نشرت (دار العودة) اللبنانية مسرحية (جيفارا عاد افتحوا الابواب) عام 1971 وكانت اصدارات تلك الدار متنوعة في العراق آنذاك ولكني حصلت على المجموعة المسرحية التي تضم مسرحيات أخرى بطريقة ما . ومن تلك المجموعة مسرحية بعنوان نجنسكي ساعة زواجه بالرب) تعرض فيها (القيسي) المبدع إلى راقص البالية الروسي الشهير (نجنسكي) الذي هو الآخر دوّخ العالم أولاً بمهارته الفائقة بفنه تلك المهارة التي لم يضاهيها أحد لا قبله ولا بعده. وثانياً لأنه تعرض إلى الاضطهاد والنازي وللتعذيب من جلاوزته فأصيب بخلل عقلي مما أضطر إلى العزلة في إحدى قرى سويسرا حتى وفاته ، وبوقتها كنت أتسائل كيف حصل (جليل القيسي) على معلومات عن ذلك الراقص العظيم ولماذا كتب مسرحية عنه ؟وعرفت بعد حين مدى سعة ثقافة ذلك الكاتب المُجدد والتي تعكسها جميع الروايات والمسرحيات التي كتبها.
في المجموعة التي كان عنوانها (جيفارا عاد أفتحوا الأبواب) نشر إضافة إلى (نجنسكي ساعة زواجه بالرب) مسرحية بعنوان (غرقوا في رائحة الظلمة) يتمثل فيها أسلوب جديد جداً في كتابة المسرحية . ويتعرض فيها إلى القبض على وحش الاستعمار وحبسه في قفص ومحاكمته . وهناك مسرحية بعنوان (التدريب على تحطيم القناني الفارغة) وهي كسابقتها مسرحية رمزية كتبت بأسلوب جديد جداً ويسخر فيها من تخلف بعض المجتمعات العربية متمثلاً في شخصية (اعرابي) يرتاد الملاهي في بلاد الغرب. وهناك أيضاً مسرحية بعنوان (ها نحن نتعرى) وفيها يستعير (القيسي) أسلوب الكاتب الايطالي (بيرانديلو) ومسرحه الذي يسمى (الغروتسك) وفيها يكشف عن القبح المضحك لبعض البشر المتوحشين في المجموعة المسرحية التي أصدرتها (دار الرشيد) عام 1979 هناك إضافة لمسرحية (جد عنواناً لهذه المسرحية) مسرحيات أخرى بفصل واحد نذكر منها (في انتظار عودة الابناء الذين لن يعودوا إلى الوطن) تتحدث عن الرجال الذين تأكلهم الحروب وهناك (زفير الصحراء) هي شبيهة بمسرحية بريخت (القاعدة والاستثناء) وهناك أيضاً (شفاه حزينة) وتتحدث عن العلاقة الزوجية وقامت فرقة المسرح الحديث بانتاج المسرحيتين الأخيرتين.