طالب عبد العزيز
في غياب الموجهات الحقيقية تصبح الحياة أخطر ممارسة إنسانية، وحين تستعيض الأمة بموجهات الغيب الـ (أخلاقية)
تتحول جل أفعالها من جادة الصواب الى احتمالات الصواب، التي هي بيد المجهول دائماً، ولعل المعادلة البسيطة هذه واحدة من أسباب تراجع أوضاع البلاد وسوء أحوال الناس، فقد باتت موجهات الغيب متحكمة بكل ما كان قائماً، بفعل العقل، وما كان سائداً بفعل قدرته على الاستمرار، لأنه ملموس ومتحقق النتائج.
تعمل العديد من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية على جعل خطوط سير الحياة ضمن متوالية الممكن والمحتمل، لا الواقع والأكيد، فالموظف في الدائرة الخدمية يبعث برسائل سرية، لكنها معلنة لمراجعيه، فهو يقول لك تعال في الغد، سأكمل لك أوراقك. وهو هنا على يقين ثابت، بأنه إنما يمنحك الفرصة لكي تعوّل على تسويفه، وهو بالغ الحجة في ذلك، لأنه يدور في فلك عريض وواسع من الإرجاء والاحتمالات، إذ الدولة كلها ترجئ وتؤجل وتتراخى وتسوّف. تأتيه في الغد آملاً في خلاصك، لكنك، في الوقت ذاته، تكون قد ازددت يقيناً بما يضمره من تاجيل وتسويف، لا لشيء، إنما لأنك لم تتنبه لدرج مكتبة، الذي ظل مفتوحاً، بانتظار ما تقذفه فيه.
وعلى وفق المعادلة هذه، سيعوزك التصريح بما يجب عليك فعله، أتمد يدك مملوءة بالدنانير، أو تصرّح بأعلى صوتك محتجاً على تسويفه وابتزازه لك ؟ وبين النقطتين لن تجد من يصغي لك، بل ستجد العشرات ممن يقول لك: أعطهِ. ستجدهُ ممتلئاً، وعلامات السجود ظاهرة على جبهته، وفي الركن من مكتبه سجادة مطوية للصلاة، ومصحف صغير على زاوية المكتب، وهناك العشرات من المراجعين الذين ينادونه بالـ(حجي/ سيد) لذا، ستصغي مؤمناً بوجودك البرزخي هذا، ولن تقوى على إعمال حكمتك مهما بالغت في تعظيمها، فالقوم في السر ليس القوم في العلن، كلهم سيمدون أيديهم الى الدرج المفتوح.
تنتجُ الدولة العراقية نظامها هذا، وتعزز من وجوده، فهو الضامن لاستمرارها الى حين، وهي تدرك ذلك. لا يأتي الفساد من القانون وفعله ونتائجه(الموجهات الحقيقية) إنما يأتي من الغيب والأدعية والإيمان بالمجهول(الأخلاقية) ومن الاستماتة على ترسيخها، لن يكون بمقدورك التطاول على الموظف، الذي كنيته أبي سجّاد أو أبي مجاهد، أو أبي فاطمة أو أبي زهراء، فهو قد حصّن نفسه بقوة، ورفع الدريئة عاليةً على طاولته، أنظر خلفه ستجد عشرات الكتب والدورات المجلدة والمذهبة ، أنعم النظر جيداً، ستجد بيرقاً ملوناً وصورةً كبيرةً أيضاً.
فيا صاحبي: دع حقيبة الحقائق والمعاليم في صندوق سيارتك الخلفي، لا تخرجها لأحد، لأنك لن تجد متبضعين لها في سوق الغيب الكبير هذا، وخذها عنّي: لدى هؤلاء بنادق لا يعلقونها لتزيين جدران مكاتبهم.