محمود عواد
"لقد أخذتُ كاميراتِ "مارثا وبيتر"، إنهم لم يعودوا يهتمون بتصوير ما يحدث لنا ،لقد أوصلتُ ذاكرتهم بذاكرتي ، لقد مسحتُ الأشياء غير المهمةِ،
وأبقيتُ على ما يهم " زولافسكي فيلم "كوكب الأرض الفضي" "
عندما يزحف غولُ الخوف على الكائن البشري، تستعين المحنةُ بالجسد ليكون دفـــتراً تؤرخ فيه الذاكرة خراب الفرد وهو يجمع ملامحه بأوصال لحم الشظايا، فالجسدُ بالنسبة لمخـــيال الحروب اسطــــوانةٌ تدور في فونوغراف أزلي وبارع في التقاط خفايا النَفس المتمثلِ بالذاكرة الانسانية، وكما يقول "جون سكانلان" : "هي ملـــــعقةٌ يتناول بها المخيالُ الخلّاق طعــــــامه الأبدي" ، ذلك لأن التذكّر إحالةٌ إلى ما بعد التخيّل، وليس كما يظن البعضُ من أنه فعلُ مزامنةٍ لعمليةِ الخلق التخيّلي، إن فيلم "الزواجِ المباركِ" لمحسن مخملباف انبعاثٌ من جوهر الذاكرةِ المُستفَزة والمٌعبّأةِ بمخيلات ذاكراتية برعــتِ الحرب في صناعتها وتجذير حضورها في العمق الوجودي، من ملموسات تأكيد اللعب على الزمن من قِبل المخرج، إصرارُه الواضحُ على إعطاء رؤيا راصدةٍ للذاكرة نفسها، ذلك في استقدامه الكاميرا وآلة الطابعة،مؤكداً بأن التخوّف من تسلُّل جحيمِ الماضي إلى الحاضر يٌعدّ في حد ذاته كوميديا تفوق "دانتي"، وإن كان الأخيرُ قد رسم جحيمه من ترحال شعري، فالمـخيال الذاكراتي جحيمٌ يتنامى باطّرادٍ يؤهله لأن يكون مِشرطا يُشرِّح به الزمنُ جثّته , ويبلغ جهات جحيمه ، فإلى متى ستظل بوصلةُ الدم تتلألأ بين أيدينا؟! حتى "بول شاؤول" نفسه يبدو أنه لا يعلم بذلك.
عند فتحِ الحقيبةِ الإخراجيةِ للفيلم، مؤكدٌ إننا سوف نطّلعُ على براعةٍ في استنطاق الزمن بواسطة الذاكرةِ التي كان حضورُها في الفيلم متمثلاً في الكاميرا، التي هي بحسب "رولان بارت" بيت زجاجي للاحتفاظ بالظرفيتين
وبالعودة الى الثّيمةِ الرئيسة للفيلم نلمسُ رهان المخرجِ على طفولة الزمن، فكلما ضعُفت قدرةُ المخيال على الاحتكاك بالحدث، أصيب الزمنُ بالشيخوخة، نفهم من هذا أن المخرج ألّحّ على استثمار الحدثِ تأكيدا منه على براءة الزمنِ.
في تناوله للوْحةٍ عارية تنزل الدّرج يُنبّه "جورج سادول" إلى اشتغال نادر في اضفاء دراميةٍ على الزمن ، أي أن "دوشامب" فجّر مناجم الزمن بتحريك الزمن نفسِه ، فعند التفتيش تحت جلد الفكرة عن الشرايين الإخراجيةِ نجد أن المخرج اعتمد على تثوير الحادثة بتجسيده للذاكرة ، فمن خلال محاكاته للحروب استطاع المخيالُ أن يعمل على جسدنة/تجسيد الذاكرة ، لأن الزمن من دون جسد لا يتمكّن من الإحساس بتحرّكه ، بمعنى أدق أن الجسد هو زمنٌ مضادٌ ، يمنــــح التذكّر طاقة الزمنِ العكسي وتلك هي الذاكرةُ الابداعيةُ ، فكل البشر يتمتعون بزمن الممكن إلا المخيال الابداعي فهو يتمتع بتوافر زمن المستحيل، وهذا مُتأتٍّ من حضور المضاد.
في إمعان النظرِ في مقتنيات المنزل البصري للفيلم ، تظهر لنا طاقة الخزين/المخزون الصوري لمخملباف في صناعة ذاكرة بصرية قبل صناعته للفيلم، ليقينه التام بأن الخراب الإنساني لا يُرصد إلا من أعماق المرحلة، لأن الدخول في لعبة مفتوحة مع الزمن ، ضرورةٌ ملحةٌ لبلوغ الجوهر الفلسفي للحدث.
ويُعدّ مخملباف من مخرجي الموجة الجديدة في السينما الإيرانية المعاصرة ، ومنذ أفلامه الأولى وهو يعمل على اختراق التراث بثقافات متجدّدة ، فهو ينتقل بالصورة من ثقافة إلى أخرى ،وتبرُز في اشتغالاته ملامحُ شعرّيةٌ عاليةُ المستوى ، وهذا نابع من بلوغه الروح ورهانِه الواضح على اللغة في أن تتسامى في اعتماده على التوهُّجِ الجسدي والموسيقي، كما يحدث في فيلم "الصمت" الذي يتناول قصة طفلٍ أعمى، إذ استنطق نفي الحاسّةِ بإثباتها، وهذا في حد ذاته أحدُ التجليات الصوفية.
أما في فيلم "سائقُ الدراجة" فقد لامس المخــــرجُ سرّية الزمن في شحنه للصورة بحميميّةٍ غالباً ما تصادفنا في أفلامه ، ثمّة مزيّةٌ ينفرد بها مخملباف وهي ظـــــهورُه في أغلب أفلامه ،إما ممثلا أو معلقاً على آلية اشتغالاته السينمائية ، رُبّ سائل يسأل هل السيــنما لدى مخلملباف سير ذاتية؟ أم إنه يسعى إلى كسر السياق بتنوّع فكري يوّسع به دائرة السؤال الفلسفي لمخياله السيــــنمائي؟ إذا ما أردنا تصنيف ذلك فهو اشتغالٌ قد أُسِّسّ له من قبل المخرج المسرحي البولندي كانتور ، ويتجـــلى هذا في أدق تفاصيله في فيلميْه : "لحظة براءة" و"سلام سينما" الذي هو فيلم سيرذاتية كانتوري الهوى ، ولأن مخملباف مأخوذ بالتجريب والمغامرة ، نجده بين فيلم وآخر يطرح رؤيةً جديدة للذاكرة ، يبدو أن السينــــما لديه تتمثل في إعادة النظر في مخطوطة الزمن , وتنقيحِها بتخيُّلات منبعثه من قلب الانهيار ، ولا يُشخـّــص ذلك من دون الرجوع بالزمن إلى صباه ،وفي عالم الحرب يكون ذلك من المعجزات غير الوارد حدوثها ، لكن ثمة طريقٌ واحدٌ يمكن أن يسلكه الإنسان ،ربما يصل من خلاله لطفولة الأزمنة، ذلك في تطهّره في زمزم الجنون ،فعندما يتغوّل العقل ، يضعف الحضورُ الأنثوي للزمن ، هنا يأتي دور الجنـــونِ مستعيدا تلك الأنوثةِ المتمثلةِ في الذاكرة ،فمنذ اللقطة الأولى للفيلم والزمن يتحرك باطراد نحو المجهول الذكوري ،ف(كل عقل سلطة) بحسب هولدرين.
إن افتتاح الزمن الفيلمي بالمصحة هو إدانة معلنة لتبذير العقل وتفريطه في الحــــياة ، فيما الجنون اقتصاد واحتفاظ بالمقتنيات الحُلمية للزمن . في فيلم (الرئيس) بِتبلُّد شابْلِني، كما في "الدكتاتور" يستبطن مخملباف الخراب السلطوي، مجتهداً في تأكيد استفهاماته بكوميديا سوداء حول ما يدور في السراديب النفسية لحكم الأيديولوجيا الدينية..