طالب عبد العزيز
استخدمت بعض الأحزاب والجماعات الدينية والاجتماعية الحزن مادة حيّةً في مشروعها السياسي في العراق، وباتت تراهن عليه كخامة أولية في بقائها،
ورحت تراهن عليه في مستقبلها السياسي، ونموذجها الاجتماعي. وفي عراق ما بعد 2003 خرج الحزن من كونه مناسبة دينية، وطقوساً وشعائر، ليصبح نمطاً حياتياً سائداً، حتى بات الخروج عليه عند البعض عيباً اجتماعياً، إن لم يكن مروقاً وكفراً وزندقة، بل وذهبوا فيه أبعد مدى، فصار عدم اتخاذه موجباً للقتل في بعض الاحيان.
ومع أن بعض الجماعات هذه امتلكت محال بيع الخمور والحانات والمراقص الكبيرة واشتغلت في تجارة المخدرات والدعارة، وبما لم يعد سراً عند أحد من العراقيين، إلا أنها نفسها ومن خلال أذرعها إنما تمارس الضغط والترهيب في المجتمع، فضلاً عن خضوع ملايين البسطاء من العراقيين الى ما تبثه وسائل الإعلام، والقنوات التلفزيونية الموجهة تكريس فكرة تحريم الفرح، وتسويغ الحزن والنوح على أنه الوسيلة الوحيدة للتقرب من الله، وكسب مرضاة بيت النبوة والأئمة، وهكذا جعلوا الحزن بوابة الجنة الموعودة .
لم تقتصر وسائل تطويق المباهج وإشاعة الحزن على الجهات السياسية المسلحة، صاحبة المصلحة الكبرى في ذلك، إنما تحوّل الى ممارسة اجتماعية، حتى بات فتح مذياع السيارة على أغنية مستهجناً عند البعض، ونسمع الطرف والمُلح من سائقي السيارات، ممن يتندرون على بعض الركاب، ولعلك تجد من يشنع عليك فتح التلفزيون على قنوات مثل روتانا وميلودي، في مناسبة حزينة أو بدونها. الطقسية السوداء باتت تهدد النفس العراقية من الداخل، وهناك نوع من فوبيا خفية تسري في الدم والعروق، وهناك خشية غير معلنة أو معلنة أحياناً من ارتداء الثوب الابيض في المناسبات الحزينة، التي تبرعمت وتمددت في مفاصل الحياة بعامة.
يلاحظ مواطنو الجنوب أن باعة الثياب السود وأجهزة اللطم والطبول والسيوف عرضوا بضاعتهم في اليوم الأخير من عيد الأضحى، والسوق هنا تزدهر في المناسبة العاشورائية بشكل غريب. القلة القليلة جداً هي التي تعتبر بتضحية الإمام الحسين، وتجعل منها مناسبة مهمة في مراجعة السيرة الذاتية لهم، بما يعزز من صلاحهم وسويتهم، لكن الغلبة الغالبة هي التي ذهبت الى الطقس الشعائري، وجعلت منه مناسبة للوجاهة ومضايقة الآخر، بل وتشويه المدن من خلال غرز الآلاف من البيارق في الأرصفة والجزرات الوسطية، وقلع المقرنص، وما التعبير عن قضية نبيلة مثل واقعة الطف يتم بهذه الوسائل، هي أعمق وأنبل بكثير.
تعجّل جارنا السنّي بزواج ابنه بعد العيد مباشرة، حتى أنه لم يكمل تفاصيل الدعوات، وتأثيث منزله وتسوية أشياءه، ذلك لأنه المحرم لم يمهله، فمدة الـ (عشرون) يوماً بين نهاية العيد وقدوم العاشوراء لا تكفيه، لذا، اقتصر زواج ابنه على وجبة الطعام، وبعض المصابيح الملوّنة وجهاز D G ركن في زاوية بعيدة في المنزل، يبث خفيضاً بعض أغاني الزمن الجميل الذي كان. ولم يفكر إطلاقا باستقدام فرقة سعد اليابس، فالخشابة نوع من خدش في جسد الحزن في الأيام التي تسبق العاشوراء بنظر البعض.