طالب عبد العزيز
لم يقوّض زحفُ المدينة على الريف، في وسط وجنوبي العراق الارضَ الزراعيةَ والانتاجَ الزراعي حسب، إنما أتى بمعِوله على جملة العلاقات الاجتماعية، والروابط الانسانية فيه،
فقد (انتفت) حاجة البعض لبعضهم الآخر من البذور والشتلات والفسائل وتهادي الأنواع النادرة من الفاكهة والنخل والحبوب وغيرها، بما فكك الأسر هناك، وزعزع ترابطها الدهري، هذا الذي كان قوامها في التحابب والتجاذب والألفة.
قد يبدو كلاماً مثل هذا غريباً عن البعض اليوم، وقد يستهجن أحدهم بلوغ الأمر الى الحد هذا، لكنَّ الحقيقة أمرُّ وأمضى. فقد احتفظت بعض الأسر في أبي الخصيب على سبيل المثال بأنواع نادرة من بذور الطماطم والخيار والباذنجان والباميا واللوبياء وغيرها، بما جعل حاجة الناس اليهم موجبة وضرورية، مع أنهم لا يستوفون مبالغ من الذين يطلبونها منهم، فيما ظلت أسرٌ أخرى تمتهن الفلاحة وصعود النخل وغرس الفسائل وتسويق التمر وسواها من المهن، بكل عفوية وبراءة، وتضاعفت حاجة الناس لهم، مع إنهم لا يضنّون بها على أحد من جيرانهم . كل ما يفعلونه لا يقابل بأثمان، إنما للمساعدة والتعاطف ومحبة فعل الخير.
كان أبو ناصر أفضل الجميع في صناعة عروات الزنابيل والجلل والفراوند(ألة صعود النخلة) فهو يصنعها من الليف المستخلص من النخل، ثم يوّشعه ويفتله ويبرمه، ليصبح حبالاً متينة، تتضافر بقوة بعضها، ليستعين بها فلاحو القرية على أمر صعودهم ونزولهم من النخل، آمنين على حياتهم، وكان (مهدي الحداد) إذا أكمل صناعة منجل يجبرك على الاحتفاظ به مدى الحياة، فهو تحفة فنية، مثلما هو آلة تعينك على قضاء حوائجك في القطف والقصِّ والتشذيب، ومثلهما كان الملا حمدي في صناعة الحصران ومثلهم جميعا كان بيت حجي مدن في احتفاظهم بأنواع نادرة من بذور الطرح(القثاء).
مات هؤلاء بسعاداتهم تلك، لم يجنوا من المال إلا ما كان أودهم في الحياة ، فلا مال ولا جاه. كانت السعادة عندهم هو قدرتهم على تقديم المزيد مما يملكون، وهم لا يملكون شيئاً. الابتسامة والضحكة العامرة والبِشّْر الدال على سعة الصدر والقناعة، هو كل ما يملكون .كانت سلال الفرح مليئة عندهم، تأتي اليهم مما يحسنون من الحرف والمهن وما امتلكوا من أنواع البذور. السعادة عندهم أن يعترف الناس بما يقدمونه اليهم، وسعادتهم أنهم ظلوا امناء على المناجل والفراوند والحصر والبذور حتى آخر لحظاتهم، كانت الآلات والبذور والفسائل هي الوشائع والوشائج التي مكنتهم من الحياة والبقاء هناك، بين النخل وعلى الانهار، آمنين على ما تبقى لهم من الايام.
أما وقد جُرّفت الأرض وردمت الأنهار وسويت بالرمل والاسمنت والحديد والإسفلت، فقد أتت بظلامتها على أجمل علاقات إنسانية على وجه الأرض، فهي الافلاطونية في معنى من معاني الخير والتوادّد. لقد انتفت حاجة الناس للناس، وأي حاجة ؟ لم يعد الفلاح هذا، الذي بستانه على النهر ذاك، يطلب من جاره حبلاً ومنجلاً ومسحاة وبذوراً، وتراجعت أجمل الهدايا، وأي هدايا؟ طبق من رطب وسلة من عنب وزنبيل من لوبياء وبرنية من لبن.