منذ اكثر من اربعة عقود وسعدي الحديثي يغني الفرات كله كما لم يغنه أحد من قبل. ومن يغني الفرات يغني العراق بداهة: كلاهما رديف الخليقة والخير والحيرة الابدية، وكلاهما يكون هائما وجميلا ومبدعا او لا يكون.لكن الفرات العالي
والمتيم والعذب هو ما يمور به وجدان هذا الفنان والشاعر الذي سعى الى تحويل غناء البادية الى فنّ بذاته من مجرد أعراف، بالغا مكانة متميزة بين رموز الابداع وتحديث الابداع الغنائي الرافديني والعربي المعاصر، وشاقا طريقه بنفسه الى كل العالم، وغالبا في ظروف عسيرة للغاية وحصارات لا تحصى ولا تنتهي رافضا الاحتراف والاتجار بالفن في الوقت ذاته.rnولأن الفرات أكثر الانهار انتماء الى الصحراء اذ تحضنه ويعانقة معظم الطريق من منابعه حتى المصب، ناشرا فيها الغلال والالوان والرؤى، لا يكاد فن سعدي الحديثي، المولود على ضفاف الفرات والصحراء معا، ان ينضب او يبخل بشيء مستلهما ثراء قصصهما الاولى واغانيهما العريقة، ومستظلا بعز كل تلك الروح السارحة عن سبق اصرار في السمو والحنين والعتاب، تلك الروح القلقة كما لو الى الابد، البدوية الصدق والشجون غالبا، والمتهيئة للترحال القسري بين حين وآخر لا سيما نحو دواخلها الحميمة وبغداد قطعة من هذه الدواخل دائما، بل القطعة الاغلى. هذه الانطباعات والاحاسيس هي لدي حصيلة تأمل ذكريات تناثرت لحظاتها على امتداد ما يقارب اربعة عقود من الزمن هي الاخرى، اذ تعود الى نهاية الستينيات الماضية وفيها من الصور والالوان والوشائج كمّ كبير يجعلها متابعة واقعية وعن كثب و ورومانسية القصد اصلا. ففي ثانوية الشعب في الكاظمية، في نهاية 1963، سمعت اولى الكلمات عن فن سعدي الحديثي انما كمدرس يحبه تلاميذه الى درجة التباهي، حيث كان زميلي في مقاعد الثانوية صديقي الشاعر د. حميد الخاقاني قد انهى دراسته المتوسطة في "مدرسة الفجر للبنين" في ضاحية محلة النواب بالكاظمية، فنال، كما يعتقد، حظ ان يكون بين معلميه فيها مظفر النواب وسعدي الحديثي معا "وتلك نعمة!" كما قال في مداخلة في برلين مؤخرا.الفنان سعدي الحديثي يتوسط نخبة من زملاء في كلية الاداب مطلع عام 1968 بيد ان لقائي الاول مع سعدي الحديثي كان في كلية الآداب بجامعة بغداد التي دخلتها في عام 1966. فقد جمعتنا فيها حتى 1970 بعض اسعد سنوات حياة اكاديمية في كل تاريخ العراق الحديث ربما. كان سعدي الطالب في قسم اللغة الانكليزية اكبر منا عمرا ببضع سنوات. واثرى تجربة بكل شيء تقريبا، وهو ما سنعرفه شيئا فشيئا ببطء عفوي فرضه تواضع جم وصمت لافت عن الحديث عن النفس صار من المواقف المشهور بها بيننا. سفرة طلاب جامعة بغداد اليساريين الكبيرة الى سدة الهندية في نهاية 1967 التي نظمها اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية (القيادة المركزية) غدت تحديا سياسيا لامعا صار يتسارق مجده لاحقا كثيرون، الا انها كانت فرصة جميلة فعلاً في تعرفنا على الموهبة الفنية الفذة لسعدي الحديثي ذلك الطالب العائد الى الدراسة الجامعية من جديد اثر قرار لحكومة عبد الرحمن عارف بإعادة السجناء السياسيين الى كلياتهم ووظائفهم شرط التزامهم القطعي بتعهد مكتوب بالابتعاد عن اي نشاط سياسي مهما كان والا الفصل من الدراسة.ويتذكر الاديب المترجم ملهم النقيب عن تلك السفرة ما يلي:"كنت جالسا الى جانب سعدي الحديثي طوال الطريق وكان الآخرون يغنون وانا اغني معهم. ويبدو ان غنائي قد استفزه لقبحه فأخذ يدندن مع نفسه وهو ما ابهرني على الفور. فقد كانت تلك المرة الاولى التي اسمعني فيها صوته الذي لم يكن احد في الكلية قد سمعه قبلي مطلقا. وعند نزولنا من الحافلات بدأت اشيع الخبر وهو يعترض الى ان اضطر في نهاية الامر الى النزول عند الحاحنا وصعد ليغني بصوت ما زالت رخامته تحيا الى اليوم في اذني:يا ساعَه يا يُوم كِلّي يا شُهرْ يا سَنَهإنْظَلْ برِجاكُم يو لا يِنكطِعْ ياسَناإسْأَلْ طِبيبِ الّذي بحالِ الوِلَم ياسناما خَبّركْ بصْواب كلبي؟ اشْكال؟صندوك كلبي إمتلى مِنِّ الهموم أَشْكال لا يَا لّئيم اللي ما تبالي بِالزِّمان إشكالكلي الفرَج.. يا ساعَه يا يُوم كلّي يا شهر يا سنه.. لكن متعة هذا الاكتشاف لن تتوقف بعدئذ. وكالمحظوظين برحمة غير متوقعة رحنا، نحن زملاؤه الاقرب في الكلية، نتلذذ باستراق التسمع بين فرصة واخرى الى عَتابة عابرة او سْويحْلي او كِصيدْ او نايل او ريلْ وحمدْ تفلت كقطعة روح من بين اعماق حنجرة نافرة ومضغوطة اصلا، سرعان ما تترك مكانها لشرح جذل عن معنى كلمة او اخرى لم نفهمها في البدء تماما. ثم كجرح شجي تسامى الصوت من جديد:"هَذوله إحنَه سَرَجْنا الدمْ عَلَه صْهيلْ الشِكرْ يـَسْعودْخَلّينَه زِهرْ لِنْجومْ مِن جَدْحْ الحِوافرْ سودْتِجّادحْ عْيونْ الخيلْ وِعْيونْ الزِلِمْ بارودْوياخذْنا الرسَنْ للشَمِسْ مِن زودْ الفرحْ وِنْزودْيَسْعودْ إحنَه عيبْ إنهابْ، يا بيرغْ الشرجيَّةخَلّه الدمْ يِجي طوفانْ، كِلنَه إنخوضْ عِبرية.." فهذه، كانت التصديحة الاروع والاحلى التي حركت اشجان كلية الآداب تلك اليسارية والارستقراطية العطر في ذات الوقت، لنكت
استذكارات ..سعدي الحديثي ربابة الفرات العالي
نشر في: 3 مايو, 2010: 06:19 م