طالب عبد العزيز
كان المتنبي يقول:"خُلقتُ ألوفاً، لو رجعتُ الى الصِّبا – لفارقتُ شيبي موجعَ القلب باكيا" يبدو أننا قلما نخرج على مألوف، أو نخرق عادة،
وجملة أفعالنا هي إما موروثة أو تراتبية ومتوالية تقليد، ليس فيها مبتكر أو جديد، فيما تجدد الشعوب والأمم معظم عاداتها وطقوسها وأفعالها الموروثة، بما ينسجم من المتغير الحياتي والمنقلب الكوني، إذ لا بد من تحديث لها، فالحياة تتجدد، والقديم يبلى، وتزولُ أهميته في بقائه جامداً غير متحول.
أرى أن الجنوب العراقي غني بما يملك من أثر تاريخي وتراث ديني، وفلكلوره زاخر بما هو جميل، لكنَّ جهة ما لم تتأمله وتبحث فيه، وتستخلص منه ما يعيد استعماله، وبما يتواءم مع معطيات الحياة الجديدة. لم أزر القاهرة في رمضان، لكن الذين يزورونها يتحدثون عن طقس رمضاني باذخ الجمال، فالمدينة بوصفهم، تتحول الى كرنفال فرح، ونشيد ديني، يتعاظم فيه التوادد، وتتسع فيه سبل التسامح والعطف، بما لا يجعل من صيام الشهر ثقيلاً على النفس، وبما يمنحها الفرصة للتجديد والغنى، وكذلك الحال في بعض العواصم الإسلامية الأخرى، اسطنبول ودمشق وغيرها.
تنسحب بكائية وطقسية المحرم لدينا في الجنوب على صوت مقرئ القرآن في رمضان، وعلى لهجة المتحدث في المجلس، وتلقي المناسبة الحسينية بظلالها على أيام الصوم، وتتسع عباءة الحزن والكمد لتنسدل على حياة الناس في المساجد والحسينيات كلها، ولا أعرف لماذا يصرُّ البعض على تجميد اللحظة العاشورائية، ويجعل منها لحظة أزليةً في مفاصل حياته، ويجاهد في طرد كل مناسبة للفرح تحاول التسلل الى روحه؟
أقلّب كتب السير والتواريخ، فأجد العربي المسلم في الجنوب بخاصة، غير ذلك، فهو ميّال، بطبعه الى ابتكار السرور، وهو فرحٌ، ظريفٌ، أنيسٌ، يتألم أحياناً ويحزن قليلاً، لكنَّ مساحة السعادة في روحه واسعة. يا ترى، من دلّنا على ارتداء عباءة الحزن الغليظة هذه؟ وكنا شهدنا آباءنا وأجدادنا فكانت حياتهم حياةً أخرى، أكانوا أخطأوا في ترتيب الأيام؟ إذ، لم يكونوا منقوصين في دينهم؟ بما جعلم أكثر سعادةً؟
حتى أيامه الاخيرة كان أبي (عبد العزيز) من يتولى شأن تحميص وطحن البُّن، وتقديمه قهوةً للمعزّين في حسينية القرية، يوم لم تكن القهوة مطحونة في السوق، إنما تُشترى حبوباً ويتم تحميصها على النار الجذوع، يوم لم يكن غاز الطبخ قد دخل البيوت، لطالما شاهدته وهو ينفخ في النار وقد علاه الشرر والدخان، يوم كان الشيعة والسنّة يدخلون الحسينية من باب واحد، ويأكلون بعد ظهر العاشر من المحرم في ماعون واحد، كلهم واجم وحزين على فقد الإمام المقتول، قلوبهم مكسورة وعيونهم دامعة، يوحدهم الألم، يوم كان الحسين يدخل قلوب الجميع، حيث لا أحد يُهدد ويُرعب به، أو يقتل باسمه.
تعالوا نجدد طرائق مناسباتنا، تعالوا نجعل من رمضان شهراً للعبادة والألفة والتسامح والصفح، تعالوا نجعل من المحرم أياماً معدودات، فالحزن ثقيل على قلوب العراقيين، وهم بحاجة أكيدة للفرح.