فينيسيا - عرفان رشيد
ككلّ المهرجانات السينمائية في العالم، لم يكن للدورة الـ 76 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي «الموسترا»، أن تنطلق دون سجالات ذات أشكالٍ مُتعدّدة. ففيما كانت جزيرة الليدو تتحوّل في سني نهايات عقد مطلع الألفية الثالثة، وبدايات العقد الحالي، إلى مسرح للتظاهرات الاحتجاجية التي يُقيمها «مناهضو العولمة»، فقد صارت مسألة «التحرّش الجنسي»، بالقاصرات - وبالبالغات أيضاً - في عالم السينما، منذ ثلاثة أعوام، القضيّة التي تعود إلى الواجهة، سواءٌ هنا في مهرجان فينيسيا، أو في «كان» والمهرجانات الأخرى؛ ويكفي وجود اسم مخرجٍ واحد، أُدين بذلك التحرّش، أو حتى حامت حوله شكوكٌ في هذا المضمار، ليُشعل فتيل السجال. ويكفي، في بعض الحالات، حتى انخفاض عدد أعمال المخرجات ضمن اختيارات المهرجان (وبالذات في المسابقة الرسمية) ليُشعل الفتيل مُجدّداً، فما بالك أن دورة هذا العام من أعرق مهرجان سينمائي جمع طرفي الخيط معاً، وذلك من خلال حضور المخرج البولندي الكبير رومان بولانسكي بفيلمه «إنّي أتّهم» في المسابقة الرسمية، والذي عُرض مساء أمس (الجمعة)، ومن خلال ضآلة الحضور النسوي في المسابقة الرسمية، التي تتضمن 21 فيلماً 11 منها لمخرجين يشاركون للمرةالأولى؛ شباب ومخرجات وأساتذة كبار،
وكانت السجالات حول هذين الموضوعين قد برزت إلى الواجهة عَقِبَ المؤتمر الصحفي الافتتاحي الذي عقده رئيس بيينالة فينيسيا باولو باراتّا والمدير الفنّي للمهرجان آلبيرتو باربيرا، الذي ”قال أنا لست قاضياً في قاعة المحكمة لأُصدر حكماً قضائياً على رومان بولانسكي، الذي أُعدّه واحداً من أساتذة السينما في العالم“.
وأشار المدير الفنّي للمهرجان إلى تواجد أعمالٍ لمخرجات في البرامج الرئيسة للمهرجان مُشدّداً على أن «الموسترا» عندما نتجاور مع الأعمال السينمائية المُقدّمة إلى المهرجان ”فإنّنا لا نفعل ذلك مدفوعين بخيارات تنطلق من توزيع الكوتات ما بين الرجال والنساء، أو برغبة ترويجيّة أو دعائية بل من القناعة المطلقة بعمق الموضوعات المُتناولة في عدد كبير من أعمال المخرجات، وغالب هذه الموضوعات تتم مواجهتها بروحيّة نقديّة بنّاءة“.
وكانت رئيسة لجنة التحكيم الدوليّة، المخرجة الارجنتييّة لوكريسيا مارتيل، قد اضطُرّت إلى إصدار بيان مُقتضب للردّ على بعض ما نشرته الصحافة بُعَيدَ المؤتمر الصحفي للجنة التحكيم، إثرَ تغريدات ومنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي لمّحت إلى احتمال أن يكون لدى مارتيل «مواقف مُسبّقة» من مشاركة أفلام المخرجين المُشار إليهم بالبنان في قضية «التحرّش الجنسي». ونفت مارتيل في بيانها وجودَ أيّة ظلال لما سُمّيَ بـ «المواقف المُسبّقة» حول أعمال أؤلئك المخرجين المتنافسين في البرنامج الرسمي للمهرجان، وقالت في بيانها ”أرغب في الإيضاح، ردّاً على ما نُشر في الصحافة عقِب مؤتمرنا الصحفي، بأنّ كلماتي في ذلك المؤتمر إستُوعبت بشكلٍ مغلوط. وبما إنّني لا أفصل العمل الفنّي عن صانعه، فقد لمست الكثير من الحسّ الإنساني في أعمال رومان بولانسكي السابقة، ولذا فإنّني لا أملك أي اعتراض على تواجد فيلمه الجديد ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان“.
وأضافت لوكريسيا مارتيل ”ليست لديّ أيّة مواقف مُسبّقة تجاه هذا الفيلم، وسأُشاهده، بطبيعة الحال، بنفس المشاعر التي سأُشاهد فيها الأفلام الأخرى المعروضة في المسابقة“، وختمت بيانها المقتضب والقاطع بالقول ”لو كانت لديّ أيّة مواقف مُسبّقة، كنت سأستقيل من مهمّة إدارة لجنة التحكيم الدوليّة“.
وبرُغم احتمال استمرار هذا النوع من السجالات طيلة الأيام التالية من المهرجان، فأنّ غالبها سيُطوى بالتأكيد مع دخول المسابقة الرسمية حيز المواجهة الفيلميّة، وستكون الأفلام، كما نأمُل، هي المادّة الأساسيّة التي يدور النقاش والحوار و «السجال النقدي» حولها. وثمة الكثير، بالفعل، لما يستحق النقاش في اختيارات المدير الفنّي للمهرجان الذي وصف دورته الحاليّة بأنّها ”تحمل ثورةً“ في عالم السينما. وأضاف باربيرا أنّه لو نظر إلى الوراء، بعد هذه السنوات الثماني، في إدارة أعرق مهرجان سينمائي في العالم ”فإنّني أشعر بالفخر إزاء ما حقّقه المهرجان من تطوّر وتجديد، بنظرة مستقبليّة إلى الأمام، وذلك عبر التخلّي عن القوالب الثابتة والجامدة المُقاومة للتغير“. وأضاف ”لقد أُنجز كلّ ذلك دون أيّة مواقف مُسبّقة، وهو ما أفخر به حقاً“.
وبالإضافة إلى أفلام المسابقة الرسمية الـ 21 ثمة في «موسترا دي فينيسيا» تظاهرات أخرى كبرنامج «آفاق»، الذي يضم عدداً كبيراً من الأفلام الطويلة والمتوسطة والقصيرة، والتي غالباً ما ستكون، كما يحدث في مهرجان «كان» أيضاً، افضل بكثير من بعض أفلام المسابقة الرسمية، التي تُضمُّ في البرنامج الأهم لدواعٍ سياسيّة، نجومية، توزيعية، أو حتى بفعل ضغوط تمارسها على ادارات المهرجانات الكبرى شركات التوزيع النافذة.
ويلاحظ في هذه الدورة من المهرجان حضورُ عدد من الأفلام التي تتعامل مع قضايا ذات طابع تاريخي، واعتبر المدير الفنّي للمهرجان هذا الأمر ”إستجابةً من السينمائيّين، وبالذات «سينما المؤلف»، إلى الحاجة في إعادة صياغة آصرة جديدة مع «الحقائق التاريخيّة» في أدقّ تفاصيلها، وذلك لأنّ أحداثاً تاريخّة كثيرة تراكمت عليها قراءات وتأويلات، لم تكن، في الغالب، متآصرة مع الحقيقة. ولذا فإنّنا نشهد تقارب العديد من المخرجين مع الحقائق التاريحيّة، ويفعل البعض منهم ذلك بدِقّة المؤرّخ العلمي، المستند على وثائق تاريخيّة، من تسجيلات صوتية وفيلمية للمحاكمات الكبرى وعلى الإفادات والاعترافات خلال التحقيقات القضائية والشهادات المكتوبة أثناء المحاكمات، ما ضيّقَ مساحة المُتخيّل وما هو غير مستند إلى الحقائق“، ويُضيف باربيرا قوله ”لا يتعلّق الأمر في هذه الحالات بمجرّد رغبة السينمائيّين في إلقاء نظرةٍ على الماضي، بل من رغبة هؤلاء المخرجين في إزاحة الغبار المتراكم على الكثير من أحداث الماضي، وذلك لأنّ لذلك الماضي انعكاساتٍ على الحاضر وعلى المستقبل، وبالتالي يأتي حديث المخرجين عن التاريخ الماضي كما لو كان حديثاً عن يومنا هذا“.