د. فالح الحمـراني
بعد الانتهاء من الكتاب الذي أنهيت ترجمته مؤخراً، وسلمته لإحدى دور النشر البغدادية والموسوم ب "الصورة السياسية لزعماء الشرق الأوسط"
الذي قام بتأليفه مجموعة من الدبلوماسيين الروس، الذين عملوا في المنطقة، والمستعربين المهتمين فيها، رصدت جملة من القواسم المشتركة التي اتسم بها أولئك الزعماء الذين حكموا البلدان العربية بعد مرحلة انتهاء الاستعمار، في مقدمتها الاستئثار بالسلطة، ونكران الشعارات التي جاؤوا، أو جاءت بهم للسلطة، وتغييب الجماهير، التي حملتهم على أكتافها ليرتقوا الى " عروشهم"، وملاحقة المعارضة حتى المعتدلة والمسالمة، والدخول في صراع مع أقرب " الرفاق" من أجل " كرسي " الحكم، وحتماً تلطيخ اليد بدمائهم. فضلاً عن عدم وجود برامج تنموية اقتصادية واجتماعية واضحة ودقيقة لديهم، والتأرجح بين الآيدلوجيات والعقائد، والنفور من التطبيق الديمقراطي، وبالتالي فرض نفسها كزعامات " الضرورة التاريخية"، و" المنقذة للشعوب". علاوة على ذلك إنها اتسمت بالكارازمية، وتحلت بالشجاعة وروح المغامرة في بعض المراحل، ولفت الجماهير حولها في بعض الأحيان. يبدو أن هذا النموذج من القيادة قد استنفذ نفسه، رحل عن الساحة السياسية، التي تبحث اليوم عن نمط جديد من القيادة، أنها ( الساحة) تشعر في هذه المرحلة بأزمة قيادة. قيادة تتمتع بالتجربة والحنكة وأفق النظر البعيد، وتدرك توجهات الحراك الداخلي ومتطلبات الدولة، وتوجهات السياسية العالمية. رجال دولة بحق، لم يصلوا لكرسي الحكم بحكم الصدف، ونتيجة للعب سياسية قذرة.
في هذا السياق أشير في بعض موضوعات الكتاب الى أن أمام الدول العربية الأخرى اليوم مهمة تحديد مقاربات جديدة نوعياً لبناء الاقتصاد، تهدف إلى ضمان تنمية حيوية وتوزيع أكثر عدلاً للموارد الوطنية. وتنشأ مرة أخرى مشكلة مشاركة القوى الخارجية في تمويل مشاريع التنمية. وتنشأ في البديل الجديد، مشكلة الارتباط بين الإجراءات الديمقراطية الرسمية والتنمية الحقيقية للمجتمع، ومنح حقوق اجتماعية واقتصادية حقيقية وضمانات لأغلبية السكان. وأخيراً، هناك مشكلة أخرى تتمثل في تحديد الدور الذي يعود للدين في المجتمع وللمنظمات الدينية.
وتلفت الى أن الشرق الأوسط، منذ عقود، من بين أكثر المناطق اضطراباً في العالم. لكن من غير المرجح أن يكون العالم العربي قد مر بوضع شبيه بالوضع الذي يمر به في الوقت الحالي، عندما تسود فيه أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية منهجية لدول المنطقة، هي الأسوأ والأطول منذ حصول الدول العربية على الاستقلال السياسي.
وتبرز مشكلة عدم وجود قادة يثق بهم الناس. فلم تعد النخب السابقة تحظى بالثقة، لأنها لم تضمن التطور الديناميكي للاقتصاد، وتحسين الحياة الاجتماعية. ولعل أكثر العوامل التي تأجج استياء السكان، هي رغبة الكثير من ممثلي السلطات باستخدام سلطاتهم الرسمية لغرض الإثراء الشخصي. وترتبت شبكات ثابتة من بطانات ممارسة الفساد، ووضع موارد الدولة تحت تصرف المسؤولين والأشخاص المرتبطين بهم. " لقد تراكم الاستياء لدى الناس لفترة طويلة، مما خلق إمكانات انفجارات خطيرة، وبالتالي تسرب الى الخارج، في البداية في تونس، ثم في مصر وفي بلدان عربية أخرى".
وتعرب عن الأسف لأنه لم يكن بين قوى المعارضة قادة ومنظمات يمكن أن يغيروا الوضع نحو الأفضل بشكل فعلي، ويطرحوا برنامجاً واقعياً للتغلب على أزمة التنمية في البلاد لصالح غالبية السكان وضمان تنفيذها. وتستنتج إن كل هذا حدد إلى حد كبير انفجار عام 2011 ، ما يسمى "الربيع العربي"، وما تلاه من تحولات اجتماعية- سياسية مؤلمة، وما زالت من دون نتائج للتحول الاجتماعي / السياسي للدول العربية، وانزلاق عدد من دول المنطقة إلى هاوية الصراعات الداخلية طولية الأمد. ومحاولات من الخارج للتأثير على هذه العمليات، وكقاعدة عامة، أدت فقط إلى تفاقم الوضع وإلى اتساع وزيادة حجم الاصطدامات.
وكما حدث في كثير من الأحيان في الماضي، أدى عدم وجود أفكار معقولة وجذابة ذات طابع اجتماعي واقتصادي، إلى ملء الفراغ الناجم، بمفاهيم الأصولية الدينية. ولكن اللجوء إلى الدين، وطرح شعار "الإسلام هو الحل!" في سياق المشكلات "الدنيوية" المحددة تمامًا ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية، كما بينت أن التجربة الحقيقية إبان وجود "الإخوان المسلمون" في السلطة في مصر، اتضح إنه لا يجد الحلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة.
وتؤكد الى أن هناك حاجة ماسة في المنطقة، إلى ظهور برامج جديدة وقادة جدد يمكنهم استعادة أمل الناس ومنحهم التوجيه. وعلى الرغم من واقع انخراط الجماهير العريضة اليوم في السياسة، إلا أنه من غير الواضح للجميع هل أن فكرة إشاعة الديمقراطية ـ ستمهد السبيل للإصلاحات المنشودة، و"التحديث". وتقول: إن تاريخ المجتمعات الإسلامية في القرن العشرين مليئة بأمثلة عن كيفية محاولة اعتماد الجوانب الأجنبية خاصة الغربية، للحضارة الحديثة، دون مراعاة الإمكانات الروحية والقدرات الواقعية للأمة، والاعتماد على إجراء التغييرات بالطرق الإدارية،. وترى بعض الدراسات التي تضمنها الكتاب بأنه وعلى الرغم من أن الأوساط الحاكمة تُزَين واجهة الدولة بسمات الديمقراطيات - البرلمان، والأحزاب، وتخفيف بعض الرقابة - ، فإن هذا أدى في الواقع فقط إلى فصل النخبة عن عامة السكان، ووضع تحت أساس النظام السياسي لغم استياء الجماهير بتهميشها، القابل للانفجار بقوة. وترى إن إدخال نمط حياة ديمقراطي وحديث، على خلفية نطاق واسع من الفساد والمحسوبية، مهمة غير قابلة للتنفيذ. ان التطبيق الديمقراطي يستدعي أيضا إشاعة العدالة، ووضع البرامج الاقتصادية والاجتماعية، بمشاركة كافة شرائح ومكونات المجتمع، وتفعيل منظمات المجتمع المدني، التي تساهم بقسطها في الرقابة على أداء مؤسسات ونزاهتها.
وتجمع الموضوعات الى أن المرحلة تتطلب مقاربات جديدة للتحديث. تكمن في إجراء إصلاحات سياسية، الغرض منها هو إشراك الشعوب في الحكم. ومن الناجع ان يكون التحديث تدريجي ودقيق. ورغم أن عددا من المواقف المحددة، تتطلب التصرف بشكل أكثر حسما.
وتخلص الى ان المجتمعات العربية، تتطلع الى قيادات تمتلك خبرة في الإدارة، تعتمد في بعض الأحيان على الغريزة السياسية، التي نادرًا ما تخذلها. وإذا قارنا هذا الأسلوب السياسي بتصرفات تلك النخب التي تشكلت بعد الاستيلاء على السلطة من قبل المتآمرين العسكريين، في العديد من الدول العربية، سنرى أنهم مالوا إلى القرارات المتهورة، ولكن ذات الظاهر المثير. والتي تُدرس للنهاية، مما لم تؤد بالبلاد الى طفرة للأمام كما يُعلن، بل ترمي الوطن إلى الوراء. وقدم "القادة الثوريون!" في جنوب اليمن والعراق ومصر والجزائر، أمثلة ساطعة على ذلك. وإذا حاولنا وضع رسوم بيانية للتقدم، لمنتصف القرن العشرين كنقطة مرجعية، فسنجد أن البلدان التي كانت في مرحلة تطوير قد تأخرت إلى حد كبير، بعد أن فقدت مزاياها في مجال تنمية الإنسان، ناهيك عن التقدم الاقتصادي. واتضح أن الحكام الذين لديهم خبرة إدارية هم الأكثر قلقًا على الناس، وليس أولئك الذين يصرخون بصوت عالٍ بشأن العدالة الاجتماعية. ان الاستقرار السياسي الداخلي، وبرامج التنمية المتوازنة والواقعية، والسياسة الخارجية السلمية - هي الشروط التي تضمن الحركة الارتقائية في حالة المجتمع الجديدة. وبالإضافة إلى الميزات المدرجة في ستراتيجيات التنمية المشتركة بين جميع هذه البلدان، فإن الأسلوب السياسي الشخصي لكل قيادة له أهمية كبيرة.