ستار كاووش
بعد أن علقت صديقتي معطفها على باب المرسم من الداخل، إنشَغَلَتْ بمشاهدة اللوحات الجديدة. وأنا بدوري أردتُ تحضير القهوة،
لكن شيئاً آخراً أثار إنتباهي، فقد لاحَ لي شكل غريب وأنا أنظر ناحية المعطف، فأمسكت بفرشاة الرسم وغمستها باللون الأسود واتجهتُ نحو الباب لأرسم عيناً على الظل الذي كونه المعطف، ليتحول الظل الى وجه مكتمل الملامح تقريباً وسط دهشتها وضحكها، وربما كانت تردد مع نفسها (ما الذي ورطني مع هذا الرسام المجنون).
لقد إستعدتُ حادثة المعطف والكثير من المواقف المشابهة التي رأيت فيها أشكالاً وهيئات غريبة، بعد أن وصلتني قبل أيام صورة من إحدى صديقاتي إلتقطتها لفنجان قهوتها بعد أن قلبته حيث ظهر لها شكل يشبه هيئة الأشخاص الذين أرسمهم في لوحاتي! فرحتُ لهذه الإلتفاتة والمصادفة التي ذكرتها بأعمالي.
هذا النوع من الالتقاطات يسمى الباريدوليا، وهي إنعكاس نفسي يتخيل ذهن الانسان من خلاله أشكالاً هي في الحقيقة غير موجودة، لكن المصادفة هي التي لعبت دوراً في إيجادها وتكوين هيئتها الخارجية الغامضة، وكل إنسان مهما كانت إهتماماته يشاهد هذه الاشكال التي تظهر عفوياً هنا وهناك، سواء على جدران غرفة اندثر جزء من طلائها أو من خلال قطعة قديمة من الخشب قطعت بطريقة عشوائية، أو حتى على الملابس المهملة أو بسبب سقوط الضوء بطريقة معينة على سطح ما فيتحول شكله الى شيء مختلف، أو قطعة صغيرة من الحصى ملقاة على الشاطئ وقد حولتها عوامل التعرية الى وجه غريب، أو جبل كبير ينتصب في العراء مكوناً وجهاً شبحياً، حتى الغيوم تتحول بسبب تغييراتها وحركتها السريعة الى اشكال موحية وغامضة.
لا أرى هذه الأشكال التي تظهر لي بغتتة في حياتي الأعتيادية فقط، بل هناك الكثير منها يظهر لي عفوياً على سطوح لوحاتي وأنا أرسم، وأسميها بقع المصادفات، لكني أمسك بها فقط حين تكون تملك حيوية ما وتكون مناسبة لرؤيتي وأسلوبي في الرسم وأستطيع توظيفها مع مناخ اللوحة وتفاصيلها وتقنيتها بشكل مناسب ومؤثر. أترقب هذه الأشكال دائماً وأنتظرها هنا وهناك في زوايا اللوحات لتكون بمثابة هدايا صغيرة محببة تهديها لي المصادفات، وهذا واحد من أسرار المبدعين الذين لهم خرائطهم التي يسيرون عليها وصناديق كنوزهم وحكاياتهم التي يغرفون منها بين حين وآخر، والرسام هنا يشبه الى حد بعيد الروائي الذي يبحث في دليل الهاتف عن إسم مناسب لبطل روايته الجديدة، أو القاص الذي يلفتُ إنتباهه حديث عابر لشخصين في الباص فيكون ذلك الحوار ملائماً لقصة ينشغل بكتابتها في ذات الوقت. والرسم في أساسه يعتمد على هذه الظاهرة، سواء كان ذلك بشكل واعٍ أو عفوي، لأنه ينطوي في جانب كبير منه على البحث عن أشكال معينة وتكوينات توضع بطريقة ما لتُكَوِّنُ علاقة معينة مع بعضها.
وبما أن الباريدوليا ظاهرة نفسية تستجيب عشوائياً لبعض الأشكال، وكونها أيضاً تثير بعض الغموض والحيرة في الطبيعة، لذا ينظر لها الكثير من الناس البسطاء بإعتبارها قدرة إلهيَّة ونوع من المعجزات، كمشاهدتهم لهيئة السيد المسيح على جدران أحدى الكنائس، متناسين الأمطار التي تسببت بالرطوبة التي كونت بدورها هذه الأشكال، أو رؤية كلمة معينة على قطعة فاكهة في الصين، أو حتى رؤية صورة زعيم ما على وجه القمر!
وكما تمتع نفسك بلقاء مُحِبٍ أو بفنجان قهوة الصباح وصوت العصافير في حديقة المنزل، مَتِّع نظرك وانتبه لما حولك لتكتشف هذه الأيقونات التي تظهر بشكل عفوي ومفاجئ، فرغم كونها عابرة، فهي تنشط خيالك وتمنحك الابتسامة على أقل تقدير.