شاكر لعيبي
قبل أسبوع تحدثنا هنا عن جماليات البساط، وفق الشذرات القليلة الواردة في التراث الشعريّ والنثريّ العربي. لنتتبع قليلاً هذا الإرث الشعريّ مرة أخرى،
ونطرح السؤال عن السبب الذي لم يُعتبر فيه البساط (حاملاً) للعمل الفني، هذا إذا اعتبرنا النقوش والرسوم المرسومة عليه أعمالاً تشكيلية كما نعتبرها اليوم، وكما اعتُبر الورق المنقوش والمرسوم دائماً حاملاً فنياً. يقصد عادة بالحامل في الفن - في الرسم خاصة - المادة أو الحاجية التي تُنفّذ عليها اللوحة. كان القماش لوقت طويل حامل فن التصوير العالميّ، ويمكن أن يكون الجدار أو الخشب وغيرهما كذلك من الحوامل. الحامل عنصر أساسي في فن التصوير، وهو قد يُغيِّر بدرجاتٍ قراءة وتأويل العمل. في تأريخ الفن يقع الحامل عادة في مواجهة المتلقي (وجهًا لوجه) أو على ركيزة، قاعدة (socle) بالنسبة لفني النحت والخزف. لا يوضع العمل الفنيّ عادة على الأرض. لذلك، اعتبرت على ما يبدو، طبيعة الأعمال الخزفية والنسيجية مريبة، بسبب طريقة عرضها أو استخدامها. ولذا كان الخزف الإسلامي الرفيع يعلق غالباً على الجدران أو يوضع مائلاً في خزانة، وهو ما نراه حتى اليوم في المغرب العربيّ، بينما في العصور الأحدث فلدينا الأدلة الدامغة (كما تبرهن مشاهد الرسم الاستشراقي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين) على أن السجّاد كان يُنشر على حبال أو يُعلّق على جدران الحوانيت التي تبيعه في المدن العربية العتيقة.
من هنا فإن الإعجاب العربي المعروف والمثمَّن (للصورة) المرسومة، يتراجع كثيراً حالما تُرسم هذه الصورة نفسها على بساط ملقى على الأرض، ألم تر ما يقول ابن الرومي:
جاهي أدق من الصراطِ فيكم وعزي في انحطاطِ
وتكايسى وتـــــــــحاذقى يلجان في سم الخــــــياطِ
وأنا الشــــــقي بأرضكم مثل المُصَوَّر في البساطِ
لعلّ بعض أبواب المنازل العربية كانت تُعلِّقُ قديماً السجّادَ كأبواب لها، أو كأبواب داخلية، ولكننا لا نظن بأنه من السجاد العالي الذي لم يكم أحد ليرض أن يقوم بدور ستارة.
مع ذلك، فإن عملية نسج البساط تندرج في عملية (الحياكة) بصفتها مفهوماً لعموم الخلق الفنيّ، وتورية عنه. وقد استخدم الجرجاني هذا المفهوم للحياكة بهذا المعنى: العمل الشعريّ هو مجموعة من العناصر المضمومة إلى بعضها بطريقة مترابطة، مثله من النجارة، وبالأخص عملية تطعيم الخشب. النسيج والنجارة كانا مثاليه الأثيرين، ولا نشكّ بأنه كان لا يقصد نسيجاً ونجارةً عادية مبتذلة.
في لسان العرب قبل ذلك، قُورِنَ الجميل المتقن بالحياكة. قَالَ الرَّاجِزُ يصف ظهر أتان من حمر الوحش :
كَأَنَّمَا جَلَّلَهَا الْحُوَّاكُ - طِنْفِسَةٌ فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ
إنه يصف ظهرها بأن فيه وشيا ورقما وخطوطاً وطرائق، فكأن حائكا وهو الذي ينسج الثياب، ألبسها طنفسة [سجاّدة] موشاة فيها خطوط مستقيمة ذات ألوان، فالخطوط في ظهرها تلوح كأنها مذهبة عند تحركه ومتابعتها السير. إنه (حائك) وفي الوقت نفسه ا(حابك)، والحِباَك هو الخط في الرمل أو في الثوب أو في الشعر، ومثله الحبيكة وجمعها حبائك. في النص القرآني "والسماء ذات الحبك" وهي طرائق الضوء ترى في السماء في غياب القمر، وهي المجرة أو الأفلاك تدور فيها الكواكب، يقول المفسّرون.
يعود اليوم بعض النقد التشكيلي العربيّ، في المغرب، لاستخدام مفهوم (الحياكة) لوصف عملية تكوين وتشكيل الأعمال واندغام عناصرها عضويا بعضها بالبعض الآخر.