طالب عبد العزيز
ربما تبدو للبعض جملة(لقد خرّبت الأحزاب الإسلامية حياتنا) مستهجنةً، أو كما لو أننا نحيل إليهم كل ما حصل في العراق من سوء،
مع أن الحقيقة تقول ذلك بكل وضوح. وهنا لا نتحدث عن الإسلام كنصوص، إنما نتحدث عن استثمار النصوص تلك، في تمكين الأحزاب من السلطة، ومن ثم اشتغالهم على منطوق الحلال والحرام، لغايات خاصة بهم، وفي تمرير مريب لسياستهم، التي تتخذ من النص ذريعة، وبالتالي تعميم المنطق هذا ليصبح الطلاء الذي غلف الحياة العراقية كلها.
أثارتني الإنشودة الدينية التي ظلت تنبعث من مكبر الصوت، في قطار لعب الأطفال، الخاص بأحد المولات الحديثة بالبصرة، فقد وجدتها غير مناسبة. القطار بألوانه الزاهية والأطفال بثيابهم الملونة الجميلة أيضاً، والمكان كله يوحي بما في الحياة من إمكانية التفتح والألق، لكن الانشودة كانت حزينة، قاتمة، لا تمت بصلة الى المكان والأطفال والمباهج التي تضوع في وجناتهم. الموظف يخشى الموسيقى بسبب المنظومة العامة، التي تم تسويقها على أنها الحق. أما الاطفال فقد ظلوا يدورون مع القطار، بانتظار قطعة الفرح، التي وعدوا بها.
يتداول العراقيون في سرهم وعلانيتهم مصطلح(الحلال والحرام) أكثر من أي مصطلح ديني، حتى بات أي حديث عن الصحة والتعليم والتطور والعلم والحياة والمستقبل بلامعنى، إزاء هاتين الكلمتين، ومع أن غالبية الناس لا تسأل في مفهوم الحلال والحرام، أو كيف يكون الحلال حلالاً والحرام حراماً، فهم يستقونها من أفواه الخطباء وأئمة المساجد والروزخونية،حسب، ويسلمون بها بلا أدنى بحث أو دراية. فإذا قال لهم الخطيب إن الاختلاط في المدرسة حرام، سلموا به، دون الرجوع الى البحث في موجباته، أو الخوض في أضرار العزل بين الجنسين، من وجهة نظر علماء الاجتماع والنفس وذوي الاختصاص.
ومثل هذه وتلك لا نجد من يعترض على قضية مثل بناء مسجد، أو حسينية أو موكب في أرض تابعة للدولة، أو لمالك غائب أو تركة لأيتام، طالما تحول المكان الى مبنى يذكر الله فيه وتقام فيه الشعائر. فالحلال والحرام هنا ما تحقق لديه. وبذلك أصبح كل من يقطع الشارع بموكبه ليس مذنباً، وبات كل من استولى على الرصيف وبنى فوقه دكاناً تاجراً، وكاسباً عيشه بعرق جبينه، وهو محسنٌ إذا تبرع للمسجد أو للحسينية ببضعة دراهم، وليس بين الناس من يسأل عن الطريق الذي قطعه، أو عن الرصيف الذي استولى عليه، ولا عن قطعة الأرض الموقوفة كخيرات والتي استولى عليها بتهديد دائرة الوقف السنّي.. وهكذا، فمشروع الدولة كله بني على الأساس هذا، بحسب مفهومه، فقد أستولى المسؤول الكبير، القائد في الحكومة على الشارع بأكمله وأدخله في ملكوته.
ستبقى سياسة كهذه تتحكم بعقل العراقي المسلم البسيط بخاصة، وسيظل تحت تأثير ما سُوّق إليه بمفهوم الحلال والحرام الى ما شاء الله من الزمن، مالم تفعّل الدولة قوانينها، ما لم توجّه وسائل الإعلام الى كشف حقيقة ما سُلب منه عبر المفهوم هذا، وستظل الشخصية العراقية متردّدة في قبول ما ينتجه العقل الإنساني من آراء وأفكار، وبما يعزز المستقبل والطموح، وها نحن نعاني، جماعات وأفراداً مما اصبغت الحياة به، فقد ظلت المرأة خائفة مرعوبةً من وجودها بين الرجال بفعل الحلال والحرام، وتم الامتناع عن أطايب المتع في العلاقات الإنسانية داخل الأسرة بسبب الحلال والحرام، وحوصر الأطفال في عادات وتقاليد سوّقت إليهم ضمن مفهوم الحلال والحرام.