لطفية الدليمي
تشيعُ في البلدان التي تعاني إنعطافات كبرى في حياتها - وبخاصة تلك البلدان التي لم تتركّز فيها الثقافة العلمية والمقاربات الفلسفية العقلانية - سردياتٌ مستحدثة أبطالُها
هم بعضُ مدّعي الحكمة الوقورة والفكر الهادئ المعقلن الذي يستبطن - كما يظنّ - ذخيرة عظمى من التروّي والكياسة . إحدى تلك السرديات - مثلاً - والتي شاعت في أعقاب زلزال العراق عام 2003 مفادها التالي : إذا كان النفط هو لعنة العراق ؛ فماضرّ العراقيين لو أنهم كانوا سلّموا منذ البدء مقادير ثروتهم النفطية والصناعة المرتبطة بها والمكمّلة لها في مراحل النقل والتسويق إلى كبريات الشركات العالمية بعد أن يتفقوا على جزء من الأرباح فحسب . ألم يكن هذا الإجراء اليسير كفيلاً بأن يحقن دماءهم ويجعلهم يعيشون في رفاه نسبي معقول هو أفضل بكلّ المقاييس المعتمدة من عيش حياة مغمّسة بدماء الضحايا في حروب أهدرت أموال العراق فضلاً عن افتراسها خيرة شبابه الذين دفنوا في في مطامير موحشة ؟ ويسوّغ هؤلاء هذا الخيار بأنّ الدول الكبرى عادة لاتلجأ إلى خلق مناكفات سياسية أو إقتصادية مع بلدان أخرى تمتلك فيها الشركات الكبرى مصالح عملاقة وبخاصة في قطاع حيوي مثل القطاع النفطي ، وربما تكون تجربة دول الخليج العربي مثالاً قياسياً في هذا الميدان ، والحجّة المسوّغة لذلك أنّ الاقتصاد يعلو على السياسة ، وأنّ المال أقوى من العناصر الأخرى في تشكيل الخارطة الجغرافية -الستراتيجية العالمية .
ربما قد يجد بعضٌ شيئاً من الغرابة في تناولي لهذه الموضوعة في عمود يختصّ بالموضوعات الثقافية ؛ لكني أقول أنّ هذه الفكرة الموهومة التي يتبنّاها بعض مدّعي الحكمة إنما تعكس إختلالاً بنيوياً ثقافياً وحضارياً قبل أن يكون إختلالاً سياسياً أو إقتصادياً ، وهذه بعض الحقائق الكامنة وراء هذه الإشكالية الخطيرة :
أولاً : يعكس هذا الرأي نمطاً من الثقافة البدوية التي ترى في الدولة فريسة ينبغي إحتلاب كلّ ماأمكن من خيراتها وبأيسر الطرق وأقلّها تكلفة بدلاً من النظر إلى الدولة على أنها بناء تراكمي من الخبرات والجهود والرؤى التي قد تكون غير مطروقة في بعض الأحيان .
ثانياً : ثمة فرقٌ بين التخادم والتواكل . التخادم بين الدول أمر محمود لانه يعني أن لديك شيئاً يحتاجه سواك فيطلبه منك لقاء شيء آخر تحتاجه أنت ؛ أما أن تطلب من الآخرين أن يأتوا ليستخرجوا لك ثرواتك الطبيعية وأنت خامل متواكل فهذا سلوك لايليق سوى بكائنات طفيلية تستطيب العيش على ماتجود به مخلفات الآخرين .
ثالثاً : الشراكات التقنية مطلوبة وشائعة في عالم اليوم بفعل عوامل كثيرة ؛ لكن لن ننسى أنّ الشراكة الناجحة والمثمرة لاتقوم إلا بين أطراف يسود بينها قدر مقبول من الفهم والكفاءة التقنية وإلا إستحالت علاقة عبودية تقنية ، وهنا يبرز دور التعليم والثقافة في خلق إنسان يشعر بأهمية دوره في الحياة ولايرتضي العيش عالة على المَدَد النفطي .
رابعاً : العلم ، إذن، مسنوداً بأخلاقيات الترفّع عن العيش الطفيلي والتطلّع الطموح لترك بصمة مميزة في الحياة - فردياً وجمعياً - هو الطريق الأوحد إلى المستقبل ؛ أما من يفكّر برهن مستقبله ( وهو النفط الذي لامستقبل سواه عند البعض ! ) لشركات عملاقة وهو مستريح لايكابد عناء البحث والمعرفة فيجب أن يتذكّر مقولة الوزير الأمريكي الذي قال للخليجيين في بداية عصر النفط الخليجي : " ولماذا أعطيك الجزء وأنا أستطيع أخذ الكلّ ؟ "