حازم مبيضينشعرت بحزن عميق، وأنا أقرأ نبأ عثور الاجهزة الامنية على جثة متعفنة لعراقي في الستين من عمره في منزله الذي يعيش فيه وحيداً، وقد نقلت الجثة إلى مركز الطب الشرعي، وأشارت التحقيقات الاولية إلى أن الوفاة طبيعية، ولا وجود لشبهة جنائية، لأن ملابسه كانت في وضع طبيعي ولا إصابات في جسمه، وتبين أن سبب الوفاة هو انسداد الشرايين التاجية، ومن المقرر أن يتسلم أهله جثته بعد حضورهم من العراق.
لا أعرف الرجل ولا مهنته، ولاسبب تواجده بعيداً عن بلده، وليست لدي فكرة عن ميوله السياسية ولا معرفة لي بأحواله العائلية، ولست معنياً بأكثر من كونه مات غريباً ووحيداً وبعيداً عن أهله وأحبته.ذكرني موته بمقبرة الغرباء في دمشق، وهي تحتضن جثامين المئات من العراقيين، وذكرني بوفاة الشيوعي العراقي أبو براق الذي تعرفت إليه في عمان، وكان هرب من الكويت بعد أن اجتاحها صدام، كان وحيداً وحزيناً وصامداً، وكنا نزوره بين وقت وآخر، إلى أن أتانا نبأ وفاته ذات صباح، وتكفلنا بدفنه في قبر لايحمل شاهدة، وبالطبع لم نقم بزيارته بعد ذلك، لكنني أتذكر اليوم أن صديقنا الكاتب العراقي ياسين النصير انتحب طويلاً عند قبر الغريب الذي شيعه ثلاثة أفراد، ولم نعرف قريباً له في العراق لنخبره بوفاته، وكأن النصير يبكي خوفه من أن يلقى المصير نفسه، وذكرني بوفاة الفنان التشكيلي المبدع زياد حيدر في هولندا، قبل أن يتبلور مشروعه الابداعي الواعد. هل مكتوب على العراقيين في دولتهم الحديثة الموت غرباء وحيدين، منذ وفاة فيصل الاول المؤسس غريباً عن الوطن الذي أحب، مروراً بالروائيين فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان، والشعراء الجواهري والبياتي والحيدري ونازك الملائكة، والفنانين تحرير السماوي وعبد الخالق المختار ود.قائد النعماني والمخرج المسرحي قاسم محمد، و الفنان والشاعر أنور الغساني، والقائمة تطول حتى للتجاوز في طولها الرافديدن، والحزن يفرض نفسه على الغرباء المنتظرين لنهايات حياتهم، في الارض التي ولدوا فيها، مثلما يفرض نفسه على من عرفهم في بلاد الاغتراب، ناهيك عن أحزان أهاليهم وأحبتهم في الوطن وهم كانوا ينتظرون عودتهم في يوم من الايام.لماذا يموت العراقي –وخاصة المبدع منهم– غريباً عن الوطن الذي يبدع باسمه، وبعيداً عن الناس الذين يكتب عنهم ولاجلهم، ولماذا يموت الفنان الذي يكرس حياته لاسعاد أهل وطنه بعيداً عنهم، ويحمل معه الى آخرته شوقه للازقة التي لعب فيها طفلاً، وللمدرسة التي تعلم فيها الحرف الاول، ولموعده الغرامي الاول مع ابنة الجيران المراهقة، وللمقهى الذي كان يجمعه باحبته، وللسينما التي تعود مشاهدة الافلام فيها، وللجامعة التي صقلت قدراته الذهنية ووجهته صوب واحد من شطوط الابداع، وأين هي مسؤولية الأنظمة السياسية المتعاقبة ابتداءً من الملكية الدستورية ومروراً بالجمهورية الديمقراطية وما تلاها من حكم دكتاتوري ووصولاً إلى النظام الديمقراطي الوليد الذي يعاني صعوبات النشوء والثبات على الارض، وفي قناعات الجماهير، وأين هي مسؤولية المجتمع الذي أنتج هؤلاء المبدعين ثم تركهم لمصيرهم البائس؟. أسئلة قد لا تجد جواباً، وقد تثير سخرية البعض، وتستثير أحزان آخرين، لكنها تظل شبحاً يحوم فوق رؤوس المغتربين، وفوق رؤوس الباقين في الوطن والمسؤولين عنه، وتظل نغماً حزيناً شجياً ينطلق عند كل شروق وغروب في مقابر الغرباء العراقيين.
لماذا يموت العراقيون غرباء؟!
نشر في: 4 مايو, 2010: 05:21 م