TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > اوراق: نصّ الصورة

اوراق: نصّ الصورة

نشر في: 4 مايو, 2010: 05:24 م

محمود عبد الوهاب ساعات، في تلك الليلة، وأنا أتأمل صورة قديمة لشارع صينيّ عثرتُ عليها في درج مكتبتي. اعترضتني الصورة وشغلتني. في مقدمة الصورة شابة على دراجتها الهوائية، عجلة الدرّاجة منحرفة إلى اليمين كأنّ الشابة تعتزم العودة من حيث أتت، بنطالها الأزرق الضيّق يمتدّ إلى ساقيها، وينتهي بحذائها المزركش المنفتح على قدميها بلون البلّور. في عمق الصورة،
 مبنى فاحم السواد يتدرج ارتفاعاً في فضاء رصاصيّ اللون حتى ينتهي بقمة مدبّبة من الأعلى. طيور ملمومة الحجم تتخاطف حول قمة المبنى. الشارع يتصاغر في نهاياته. رجلان على الرصيف الأيمن، بقامتين متكافئتين يوليان ظهريهما إليّ، يبدوان من بعيد باهتين، متهدليْ الثياب يبتعدان كلما شدّدت النظر إليهما. على جانبيْ الصورة، عمارات متلاصقة من طراز الباروك القديم، بنوافذ متقدمة نحو الشارع كأنها عيونٌ تتلصّص. على الرصيف الآخر حوذيّ كثير الصخب، محدودب، يسوطُ حصانه. أرض الشارع متعرجة ومنحرفة، ورجال بلا ملامح يدخلون ويخرجون من الأزقة المنفتحة على الجانبين. غبش السماء يطوي تحته سحباً تستطيل وتفرُّ نهاياتها من قبضة الغبش، مثل الدخان الكثيف. لم أحتمل صَخَب الحوذيّ والعربة والحصان. أنزلتُ الحوذيّ من عربته وأدخلته زقاقاً ضيّقاً ينتهي بحانة على ساحل البحر. استبعدتُ العربة والحصان من الصورة. الشابة الآن تدفع مؤخرة حذائها بمقْدَم قدميها وتضغط على دوّاسة الدراجة، وقبل أن تعود إلى عمق الصورة ابتَسَمَتْ، حيَّيتُها أنا بانحناءة الرأس، ومنحتها اسماً هوَ "سو"، ومنحتُ الرجلين مُتهدلَيْ الثياب اسمين، "وانغ لانغ" للرجل بمحاذاة الشارع، و"تشينغ" للرجل الآخر جواره، ولم أمنح الحوذيّ اسماً لصخَبهِ. الحوذيّ يصل الساحل، يخلع حذاءه، ويُنزِلْ قدميه في ماء البحر، تبدو قدماه، باهتزاز الماء، مرتجّة ومُبعثَرة. السُحُب تتقدّم نحو المبنى الباروكيّ، تتجمّعُ وتكتظُّ وتغدو فاحمة، وذيول نهاياتها تغطي سطح السماء. عليَّ، الآن، أن أُوصِل الرجلين إلى نهاية الشارع. لابدّ من حوار يجري بينهما، فليس من المعقول أن يقطع الرجلان هذه المسافة من دون كلام.قال "وانغ لانغ": لن نستطيع أن نتنبّأ بنتيجة المباراة.أسنأنف "تشينغ": لكنّ ذلك الفريق سيخسر.هزّ "وانغ لانغ"رأسه: لا يمكن.قال "تشينغ": لا نعرف مَن سيكسب المباراة.وبصوتٍ واهن، قال "وانغ لانغ": ستجري المباراة غداً، وسنعرف النتيجة.الشابة "سو" على دراجتها وسط الشارع، الهواء يلتمّ في قميصها وعلى صدرها وتحت إبطيها. تشعر "سو" بنشوة وهي تخترق الشارع والعمارات والأسواق والأزقة، تلتفت صوب الرجلين، يأتي كلامهما إليها متقطعاً ولا مجدياً. السحب تكتظُّ أكثر، تتكاثف مثل صخرةٍ سوداء، متحجّرة . يبدو الشارع معتماً. "سو" تبتعد وتبتعد، شعرها يتطاير وقميصها الورديّ ينتفخ بالهواء كأنها ستطير في اللحظة التالية. يخرج الحوذيّ من الزقاق، ويقطع الشارع العريض، فاتحاً ذراعيه كما لو كان يرقص، بينما يبدأ الغروب يبسط أجنحته الرمادية. يبتعد الحوذيّ من عمق الصورة، يتصاغر ويتصاغر حتى يبدو مثل رأس مسمارٍ صغير. السحب تقترب من المبنى الباروكيّ، وعلى البُعدِ منه كانت عتمة السحب تنتشر في واجهة المبنى، وبين جوانبه، وعلى نوافذه المتلصصة. السُحب تتماسك مثل صخرةٍ مرجانية صُلبة ومتيبسة. الرجلان ما زالا في طريقهما. الشابة في عُمق الشارع. الحوذيّ يدور حول نفسه بمرح. السُحب تتراصّ على المبنى الباروكيّ، تنشرُ دُكنتها على المبنى والشارع والرجلين والشابة والحوذيّ. تضخُّ السماءُ أمطارها الثقيلة، والسحب تتراكم في السماء، تلتف على بعضها تلالاً من الكتل السود.الفضاء يفقد ملامحه ويرتجف. سيول الأمطار تشتدّ. الشابة والرجلان والحوذيّ يعومون بحركاتٍ عشوائية. الصورة آخذة بالتفكك من جميع أطرافها، والعتمة تغطي فضاءها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram