د. فالح الحمـراني
ليس من منطلق التعاطف أو الوقوف في المعارضة منه، أن نهج الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين، هو وليد مرحلة طويلة من مفاهيم السياسة الخارجية الأميركية،
اكتسبت في المرحلة الراهنة من مراحل العولمة مواصفات جوهرية جديدة، ودخلت بقوة في حيز التنفيذ اليومي، التي تصدمنا من حين الى آخر أما على شكل قرارات غير متوقعة بتاتاً، أو تصريحات مفاجئة، أو تغريد على صفحات التويتر. وهو اتجاه داخل الايديولوجية الاميركية، تخلى عن المساومة. كل ذلك من دون شك سوف يترك، أو هو ترك، بصمامته على النظام الدولي، ومستقبل العلاقات بين الأمم. وحان الوقت كي نطلق على منحى الرئيس الأميركي الخامس والأربعين، "بالترامبوية". وبالرغم من العديد من الزعماء وليس في أميركا وحدها، جاؤوا من وسط رجال الأعمال، وزاولوا البيزنس، إلا أنه يتعامل مع الفعل السياسي بذهنية "رجل عامل" بأوضح أشكالها . أخضع مفهوم السياسية لمفهوم العمل " التجاري"، لم يتخل عن مضمار نشاطه كرجل إعمال. هو ليس غريب على منظومة الأفكار الأساسية التي قام عليها المفهوم الأميركي طيلة تاريخه، لكنه مضى به شوطا أبعد، متطرفاً.
إن احدى وربما أهم ما في النهج الترامبوي هو تفعيل فكرة أن يعود القرار في الشؤون الدولية الى أميركا، الى البيت الأبيض بالدرجة الأولى. ويتم وضع مراتب لقرب الحلفاء من أميركا أو بعدهم على أساس مدى امتثالهم للقرار الأميركي، مدى مشاركتهم، وحيوية تحركهم في تمرير السياسية الأميركية، بكل ما فيها من خير وشر، إن كانت تتناسب أو لا تتناسب مع مصالح ذلك الحليف أو لا. وشاهدنا بأم عيوننا، وسمعنا بملء آذاننا تمتمات، ولغط زعماء وقيادات لها اعتبارها على الساحة الدولية في التحفظ وحتى الاعتراض على مواقف، ووصايا البيت الأبيض، لكن لم يدخل أحد من أولئك الحلفاء الساخطين، في معركة، أو يقف على جبهة مقاومة، بل على الأغلب يلوذ في الصمت، وأجري تعديلات على خطابه، ليناسب الخطاب الأميركي. تتخلى الترامبوية من قيم أصيلة في الديمقراطية الأميركية، التي تعد تقليدياً "النموذج الأمثل" للعالم الحر، وتضيق من انفتاحها، ومن كونها دولة المهاجرين، وتغلق نفسها بأسوار وأبواب، إنها باتت تضيق ذرعاً، وتشعر بالاختناق من الآخر. ووضعت السقوف للهجرة، التي كانت تفتخر بحريتها.
في حقيقة الأمر أن سعي الولايات المتحدة للانفراد بالقرار الدولي، لم يكن أمراً جديداً، وسجل التاريخ منذ دخول الولايات بقوة للساحة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، وإرساء قدمها في المواقع التي انسحبت القوى الاستعمارية التقليدية، بريطانيا وفرنسا. ونحن في المنطقة العربية نعرف منها الكثير، وعانينا منها الكثير، رغم إننا نتحمل مسؤولية الكثير من المحن والكوارث التي لحقت بنا، دولاً وشعوباً، فالقيادات التي مرت على دولنا، ومعظمها طارئة، اقصد غير منتخبة، بل جاءت بها انقلابات مغامرة، ومعارك على كراسي السلطة، بشتى الطرق، وأرذلها، لم تفهم اللعبة، ولم تجيد بمهارة قيادة " السفينة" للوصول بها بسلام الى الشاطئ. الولايات المتحدة تساهم بقوة حتى في تحديد هوية الأمناء العامين للمنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة. على سبيل المثال، حينما اتخذ غالي بطرس وهو أمين عام للمنظمة الدولية، موقفا مخالفاً لسياسة أميركا من الأحداث في البلقان في التسعينيات ، "استدعته" مارجريت اولبرايت لتناول الغداء معها، وأبلغته بلهجة معلم حازم، بانه في حال أن يصر على موقفه، فلن تكون له حظوظ في الترشيح ثانية ليكون أميناً عاماً للأمم المتحدة، وهذا ما حصل.
إن الترامبوية، ترى أن العالم اليوم انتقل إلى طور جديد، والتاريخ طوى صفحة، ولم تعد القيم والشعارات السابقة تناسبه. ولذا راحت تنظر باستخفاف سافر الى الدعائم التي قام عليها النظام الدولي، الذي تشكل بعد الحرب الثانية، بشق الأنفس، على أساس التوازن وعن سبل المساومات والتنازلات المتبادلة، وصان السلام في العالم، ورغم إنه كان نظاماً هشاً، معرض للاكتساح في أية لحظة كانت. وترى الترامبوية، أن زمن ذلك الزمان قد ولي، وتعالى الصدأ على الكثير من جوانبه، وغدت أوراق الاتفاقيات بشأنه صفراء. يجب تجاهلها وتخطيها، بصمت أحياناً بالخروج بصخب من مؤسسته الأثيرة، وأخرى بصمت دون الالتفاف لأحد. ووقفت الترامبوية في بعد واحد من تلك الملفات، لم تهتم في أن تكون إنسانية بحتة، تتعلق بمصائر وثقافات شعوب وأمم وأعراق، أو شؤون عسكرية. إنها تلغي كل ما يثير شكوكها، أو تعتقد بأنه لم يعد يلائم على وجه الخصوص، الولايات المتحدة الأميركية. لا يخفى على أحد أن هذا المنحى ينطوي على خطر تدمير التوازن العالمي، وتصفية الثقة بين الدول، وبالتالي خلق الفوضى، بكل ما تنطوي عليه من عواقب جسيمة على البشرية.
تشير الدلائل الى ان الترامبوية تضع الرهان في تحقيق الأهداف التي صاغتها للولايات المتحدة، ليس عن طريق القوة، وإنما باستخدام عتلات الضغط الاقتصادي. الاقتصاد اليوم اصبح الأداة الأكثر حدة، في التأثير على سياسة الدول، وهذا واقع ، وليس خيار ناجم عن عوامل عديدة ، ليس آخرها هيمنة الاحتكارات الكبرى، وشحة الموارد، والتخبط في التخطيط ورسم الأوليات ..الخ . لذلك تتلجأ إدارة الرئيس ترامب وبدعم من الكونجرس، أي ماكنة الدولة بأكاملها، الى فرض العقوبات الاقتصادية، على الدول التي تخرج على الطوق والسياسات الأميركية. متجاهلة تماماً أن العقوبات الاقتصادية لم تحقق أهدافها المنشودة حتى لو دامت عشرات السنوات، وإنها لن تطيح بنظام حكم ما، والمتضرر الوحيد منها هي الشعوب، الناس البسطاء. إن الترامبوية تتهرب من استعمال القوة لتحقيق أهدافها، أي أهداف أمريكا، وبالرغم من التهديد والتلويح بها، وحتى التحشيد لها إلا ان هناك خوف واضح من هذه المغامرة، انطلاقا من إدراكها من المرحلة الراهنة خلقت قوى، غير القوى العظمى، التي ربما توجه ضربات مؤلمة حتى في القوى الكبرى. الترامبوية لا تتخلى عن الإلتجاء للقوة في بعض الحالات، وخاصة اذا كانت في هذا تأثير على الحالة السياسية الداخلية، لتصب في جناح الرئيس وإدارته.
تضرب الترامبوية بعرض الحائط ما تنطوي عليه قرارتها ومواقفها من تناقض. إنها تحكم وفق رؤيتها، المنفعية الآنية، على القضايا الخلافية، والنزاعات بين الدول والنزاعات الداخلية، وتصدر قرارتها لتحديد صاحب الحق وفق مشيئتها، وتوفر له كافة المستلزمات المادية والمعنوية، والدعم بكل أشكاله. إنها تتعامل مع التاريخ ليس بأخذ خلفيته وجذوره بنظر الاعتبار، وإنما من خلال التعاطف الآني معه. وبذا تنفي على شعوب وأمم حقوقها، ورغبتها في تقرير مصيرها وفق رؤيتها وفق إرادتها.
قد يحتاج الخوض في طبيعة " الترامبوية" صفحات أطول، وعرض مواصفات أخرى لها، ولكن السؤال المشروع هو هل إنها تيار سياسي مؤقت، إستحدثه زعيم دولة كبرى، بما يتناسب وعقليته، وانطلاقاً من مفهومه للمشاعر الوطنية، أم إنها رد مندفع على ما يمر به العالم، أو بالتالي تيار موضوعي وليد التطورات الشاملة والجذرية التي تحدث في العالم، في عصر العولمة؟.