TOP

جريدة المدى > سينما > حديث عن الأشجار فيلم يسترجع سنوات الدكتاتورية والقمع الديني

حديث عن الأشجار فيلم يسترجع سنوات الدكتاتورية والقمع الديني

نشر في: 2 أكتوبر, 2019: 07:12 م

عدنان حسين أحمد

لم يكن فوز الفيلم الوثائقي "حديث عن الأشجار" للمخرج السوداني صهيب قسم الباري بجائزة نجمة الجونة الذهبية مفاجئاً للنقّاد والمُشاهدين معاً،

فثمة أفلام تقول الحقيقة أو تصرِّح بالقسم الأكبر منها، وفيلم صهيب من هذا النمط الجريء الذي يتحرّش بِرُكنين أساسيين من أركان الثالوث المقدس؛ الدين والسياسة؛ ولا يجد حرجاً في أن يتحرّش بالرُكن الثالث لو أُتيحت للفيلم فرصة تناول الجنس أو التمحور على بعض من جوانبه التي تلبّي الغرائز الإنسانية من دون أن تهمل الأبعاد الروحية التي يتسامى فيها الكائن البشري في أقصى لحظات النشوة واللذة والتحليق.

يعرّي الفيلم الحقبة الدكتاتورية للرئيس المخلوع عمر حسن البشير التي استمرت على مدى ثلاثة عقود بعد انقلابه المعروف على حكومة الصادق المهدي المنتخَبة وعاثَ في البلاد فساداً حيث هيمن الحكم العسكري، وبسط نفوذه على كل مرافق الدولة والحياة، فاسحًا المجال أمام القمع الديني الذي شلّ حركة الثقافة والفن، وأربك الحياة في عموم المدن السودانية وكانت السينما هي إحدى أبرز الضحايا ضمن المشهد الفني الذي يعوّل عليه المثقفون والفنانون والمفكرون في هذه البلاد المترامية الأطراف.

ونظراً لتآزر الاستبداد العسكري مع الاستبداد الديني تمّ إغلاق الصالات السينمائية ليس في الخرطوم وحدها وإنما في كل المدن السودانية التي تتوفر على مثل هذه الصالات التي تغذّي الذائقة البصرية والفكرية للمثقفين والفنانين والناس العاديين الذين يرتادون يجدون ضالتهم فيها.

تتكئ بنية هذا الفيلم الوثائقي على أربع شخصيات رئيسة وهي ابراهيم شدّاد، والطيّب مهدي، وسليمان ابراهيم ومنار الحلو، وكل واحد من هؤلاء المخرجين الأربعة يثرون قصة الفيلم بالإضاءات والشذرات والمعلومات التي تشكّل في خاتمة المطاف قصة طريفة، معبِّرة، لا تخلو من الكوميديا السوداء. وعلى الرغم من أهمية ما قاله المخرجون الثلاثة الآخرون إلاّ أن ثيمة الفيلم تكاد ترتكز على الجُمل التي قالها وتفوّه بها المخرج إبراهيم شدّاد وهي ينتقد الجوامع الستة التي ترفع الآذان في أمكنة قريبة عن بعضها ولا تحتاج لهذا العدد الكبير المآذن في بقعة جغرافية ضيّقة.

يحتاج المُشاهِد العادي لأن يعرف هؤلاء المخرجين من كثب، فإبراهيم شدّاد هو المخرج السوداني الوحيد الذي درس الإخراج السينمائي لمدة خمس سنوات بعد مدة قصيرة الاستقلال في الأكاديمية الالمانية لفنون السينما والتلفزيون وعاد ليجد البلاد تمرّ بدوامة متواصلة من الانقلابات العسكرية مثل العديد من الدول العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد أنجز ابراهيم شدّاد عددًا من الأفلام الوثائقية التي لم ترق للنظام العسكري القامع فضاعت وثائقياته أدراج الرياح مثل "حفلة صيد" و "القطط والمجانين"، و "حديقة الحيوان"، و "النيل والضفاف" وما سواها من الافلام التسجيلية التي تتطابق مع شخصية هذا المخرج الفَكِه الذي يتوفر على كاريزما نادره تجعل كلامه مؤثرًا وضارباً في صميم المتلقي الذي يسمع كلاماً ساخراً لم يألفه من قبل.

تعود بنا قصة الفيلم إلى تأسيس "جماعة الفيلم السوداني" عام 1989 في محاولة جديّة لدعم إنتاج الأفلام السينمائية لكن الحظ لم يحالفهم لأنّ النظام القمعي كان لهم بالمرصاد حيث تمّ اعتقالهم بسبب خلفيتهم الآيديولوجية اليسارية التي كانت رائجة آنذاك.

بريشت له حضور قوي في ثيمة الفيلم حين يردد أحد المخرجين الأربعة مقولته الشهيرة: "يأتي زمن يصبح فيه الحديث عن الأشجار جريمة، لأنه يعني السكوت عن كل ما يحدث". تُرى، هل سكت المثقفون السودانيون آنذاك ولم ينبسوا ببنت شفة إلاّ بعد رحيل الدكتاتور والمتآمرين معه من رجال الدين المنافقين الذين تجدهم حاضرين في كل العصور، أم أنهم كانوا يتململون، ويغلون من الداخل، ويتمردون بين آونة وأخرى؟

وفي حديثهم عن طبيعة موت السينما السودانية قال أحدهم:"السينما ما ماتت موت طبيعي. السينما ماتت فجأة " ولعل هذا التصريح يشير إلى الإسلاميين المتشددين الذين قرروا خنق السينما رغم أنها كانت طفلاً صغيرًا مازال يحبو ولكنهم قيّدوه وجعلوه يدور حول نفسه في متاهة لا مَخرج فيها، أو نافذة يُطل من خلالها إلى العالم المحيط به.

تنطوي قصة الفيلم على ذكريات وأشجان قديمة مثل الرسائل المتبادلة بينهم، وأوراق المحاضرات الجامعية، والأشرطة المرممة، والمعدات القديمة وما إلى ذلك من سنوات الدراسة في موسكو وبرلين يسترجعونها ويتأملون ذكرياتها الجميلة التي تبرق في الأذهان، وتسطع مثل النور في القلوب المُحِبة الهيمانة.

لاشك في ذكاء المخرج صهيب قسم الباري وقدرته الواضحة على الالتقاط ولولاه لما تحدث أحد الشخصيات الأربعة عن الدكتاتوريات الثلاث والديمقراطيات الثلاث التي عاشها الشعب السوداني خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال، فالرئيس يحصل عمر حسن البشير يحصل على نسبة 94.5 % وهي نسبة لا تعرفها غير الدول العربية التي تمجد الدكتاتوريات والأبطال القوميين الذين يتهاوون مثل النمور الورقية أمام أول إعصار قوي. وفي أحد خطاباته يقول الدكتاتور السوداني المخلوع متلكئًا: "إن حضارتنا السودانية تمتد إلى 7 ملايين سنة، ثم يتدارك نفسه لكنه يقع خطأ أكبر حين يقول 700 مليون سنة، وهو يعني بالتأكيد 7000 آلاف سنة من عمر الحضارة السودانية" هذا التخبط يدفع الجمهور لأن يسخر من قادته الذين يجهلون عمر الحضارات العربية في بلدانهم التي ينهشها الفقر والجوع والأميّة.

انتظمت أحداث هذا الفيلم في بنية داخلية مدروسة بعيدًا عن النماذج التقليدية التي عرفناها في الأفلام الوثائقية، فهؤلاء الأربعة الذين يتحدثون على سجيتهم هم مَنْ منحوا قوته، وأمدّوه بالحيوية، وربما يكون إعادة تأهيل السينما، وتنظيفها، وطلائها من جديد هو أشبه بالنسغ الصاعد في جذع الشجرة التي بدأت تورق من جديد وصارت شاشتها النظيفة أقرب إلى المغناطيس الذي يجذب الناظرين. وعملاً بمبدأ الديمقراطية لجأ أحدهم إلى الاستفتاء الديمقراطي على طبيعة الأفلام التي يبتغيها المُشاهدون الذين يملكون كل الحق في عرض الأفلام القادمة من مختلف أصقاع الأرض من دون أن تمتلك السلطات الحكومية الحق في التدخل ومنع الأفلام التي لا تروق لهم، فذائقة الجمهور هي المعيار الأول والأخير الذي يقرر عرض هذا الفيلم أو ذاك. لقد أدانَ الفيلم الاجراءات الأمنية التعسفية التي كانت تعيق عرض الأفلام لأسباب كثيرة يعرفها المواطن السوداني، والمفارقة في هذا الفيلم أن الجهات الأمنية السودانية ترفض عرض الفيلم في سينما "الثورة" وتختلق عشرات الأعذار الكاذبة من أجل قتل البهجة، وتحريم المتع الثقافية الجميلة التي تنير البصر والبصيرة، وتخفف وطأة الحياة اليومية الثقيلة في ظل القمع والإرهاب الفكري الذي تعاني منه غالبية الدول العربية إن لم نقل كلها جملة وتفصيلاً.

جدير ذكره أنّ المخرج صهيب قسم الباري قد أنجز فيلمًا وثائقيًا آخر لا يبتعد كثيراً عن هذا المضمار يحمل عنوان"أفلام السودان المنسية" عام 2017. درس صهيب السينما في باريس، وعمل مصوّرًا ومونتيراً الأمر الذي منحه معرفة دقيقة ومضافة في صناعة الفيلم الوثائقي والقصير. وبعد حزمة الجوائز التي انتزعها من مهرجانات عدة في إستانبول وبرلين والجونة فإنه يعدنا بالكثير من الأفلام السينمائية ذات السوية الفنية سواء أكانت وثائقية أم روائية أم قصيرة على حدٍ سواء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram