فخري كريم
أكان عليك أن تثقّل علينا أحزانَنا في زمن الفقدان والأسى الجماعي...!
غيَّب الرحيل المبكر عدنان حسين في لحظة افتراقٍ تحول فيها الموت من فجيعة شخصية، إلى ما يشبه موات الضمير وهو يحصد أرواحاً تتشوف لحياة إنسانية جديرة بالبشر...
عدنان، كأني بك قد تقصدت الغياب في لحظة البلوى، لكيلا ترى ما نحن فيه من انحدارٍ، حيث لا معنى للدم عند المفسدين في الأرض، إذ يشق له كل يومٍ نتوءاتٍ وتشققاتٍ ومساربَ في كل اتجاهٍ ليذكّرنا بما بلغناه من ذل القنوط وغياب الرؤية...!
قبل أكثر من أربعة عقود لم يكن الأمل قد تدثر بثِقل الوهم، وما ينتظرنا من مصاير يصبح فيها الفقدان وليمة يومية للطغاة. كنَّا نرى الأبواب مشرعة على بريق أملٍ واعدٍ بآتياتٍ من الأيام لا تشبه غيرها وهي تمسح آثار وعثاء دروب من كرَّسنا حياتنا لرفع الضّيم عن كواهلهم، التي هدَّها الجور ونال منها التعب. وخلال السنوات المتتاليات، ورغم كل ما واجهنا من محنٍ وتعدّياتٍ وصنوف العذاب ظللتَ أنت مع رفاقك ومجايليك تستقبل العاديات بطاقة الأمل والتحدي، تجعل من قلمك منارة يستضيء بها من يبحث عن الحقيقة، ويتكئ عليها من يريد تجاوز الشعور بالخذلان. وأينما تنقَّلتَ وأنت تحمل يراعك، فلم تجانب الحقيقة، ولم تتخلَّ عن الدرب الذي اخترت، ولم تتراجع، أمام الصّعاب وتعقّد المشهد السياسي وعتمة الخيارات الفكرية، عما ظللت مؤمناً بأنه الدرب الهادي لتحقيق حلم الباحثين عن الجنة في الأرض.
هكذا رأيتك باسلاً، مواظباً على استكشاف مغاليق الأمور وأنت تكتب كل يومٍ، لتضخّ التفاؤل بين زملائك في «المدى» الجريدة والمؤسسة، وتندفع لاحتضانهم والأخذ بيد من ترى فيه خامة لوعد بالتكوّن والتطوّر.
أخي عدنان، لقد أثقلت بغيابك ما تبقى لي من أيام، وجعلتني أعيش وحشة البقاء بلا رفقتك، وأنت تنبض بالحيوية في أروقة «المدى»، وتعفيني من متاعب أرهقتني على مدى سنواتٍ.
كنت أتوهّم أن للأحزان حدوداً، وللدموع منازلَ تجف منابعها، لكننا أصحاب ذاك الجيل الذي توهّم وأوهم بأنه يكاد يتشمّم رائحة الجنة على الأرض ويلتقط مباهجها، ننوح على آمال خضّبت حياتنا بالدم المستباح ليصبح الوهم مفازة لجحيم يزداد سعيراً مع تعاقب الأيام والعقود وإيذاناً بانزياح الأمل، وحصاد الصبر على المكاره، لشدة الانسلاخ عن الواقع وتغييب الوعي.
صارت ضمائرنا مراتع للخيبة، والقبض على جمر أشباه الرجال ممن لم يستبقوا لنا غير الإحساس بذلّ الإكراه على ابتلاع مرارة فجائعنا، التي تبدو كما لو أنها فم ينفث فحيحَ الكراهية والقنوط من قرب إدراك الحقيقة، وانبعاث الوعي.
أيها العزيز عدنان، لمَ اخترت الغياب في وقت كنت أحوج ما أكون لبقائك تخفف عني كآبتي وشعوري بالخذلان، في زمن لم يعد للشرف والتضحية والقيم السامية تلك المعاني التي كنّا نرفعها راياتٍ تبشّر بالمستقبل، وما يحمل من وعد بالجمال والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية... وصار انتهاك الحرمات والنهب والفساد والكراهية والتغوّل على سلب كل الحقوق حتى أقلها شأناً ثقافة، يستخدمها بكل الوسائل والأدوات أشباه الرجال، لإذلالنا والحط من كرامة شعبنا وتجريده من أي محاولة لاستعادة الأمل؟!
عزيزي عدنان، لقد خذلتني كما فعل قبلك، فائق وغانم وعلي الشوك وعبد الرزاق الصافي وعبد الإله النعيمي وفوزي كريم، وكما فعلت بشرى...
نمْ واسكن حيث لا مكانَ للمظالم، وتغييب الوعي، وأوهام من لا يرى المصير والفقدان.
جميع التعليقات 9
Anonymous
ابا نبيل انت مع كل الطيبين احياء كانوا ام مغادرين !! سلمت دوما !
صباح الجزائري
نعم ،صدقت غادرنا عدنان وكأنه تقصد الغياب في زمن البلوى. اشد على يديك بعزاء شديد و ثقة كبيرة بأنك اكبر من الخذلان واقوى من وهم الفاسدين و المتسلطين. ستبقى ذكراه ملهمة للجميع.
د. غالب العاني
وهل للحزن حدود..؟لقد رحلت ايها الانسان العراقي الوطني والأممي في وقت ، جيل أسباب الثامر بأمس الحاجة الى كلماتك الحرة الإذاعة.ستبقى أبدا في الذاكرة... وشكرا للعزيز فخري على هذا النعي الؤثد...
سعد حمدان
اعانك الله على فراقهِ .. أبكيتني وانا اقرأ كلماتك له وحزنك عليه كانه حزن العراق الذي يلتف حولنا من كل صوب .. رحمك الله إستاد عدنان فطالما كان قلمك يفضح اللصوص في بلدي وهم كثر ..
د. أحمد طقشة
الرحيل قاس واحيانا مثله البقاء. اربعون عاما عرفت عدنان،كان مصرا على التفريق بين البقاء والرحيل لاننا ابناء الحياة ،ومن اجل ان تكون جميلة نكتب .
هاني الفهداوي
مرثية مؤثرة من كبير مثلك يستحقها كبير مثل عدنان
أحمد حلواني
أحييك أستاذ فخري كريم على وفائك وهذه الصياغة والمعاني الراقية بيصدقها وتأثيرها
هاني الفهداوي
لعله ارتاح من هذه الدنيا التي ضاع فيها الحق وتسيد فيها الباطل.
kudi
مرحبا يا استاذنا العزيز فخري كريم نتشرف بك وبقلمك, انا من اربيل, اود الاتصال بك ان امكن, الرجاء كيف يمكنني فعل ذلك, الامر يهم التعاون مع صحيفتكم و مؤسستكم الموقرة. وشكرا.