دراسة تحليلية من منظور علم النفس والاجتماع السياسي
د.قاسم حسين صالح
الحلقة الثانية
قدمنا في الحلقة الأولى توثيقاً موجزاً لما حدث في الفاتح من تشرين أول ،2019، ومؤشرات عن خمسة أيام هزّت العراق وأدهشت العالم.
وفي هذه الحلقة نمهد لما تعنيه ثقافة التظاهر في أكثر من منظور.. ونوثّق لتظاهرات حدثت قبل سبع سنوات.. استخدمت فيها السلطة الرصاص الحي وسقط شهداء في نفس المدن ذات الغالبية الشيعية!.. مهدت لمجزرة تشرين أول 2019.
ثقافة التظاهر
يعدّ التظاهر سلوكاً حضارياً سلمياً يمارسه مواطنو البلدان الديمقراطية..يحصل حين تخرج الحكومة أو السلطات عن القانون أو تتلكأ في تنفيذ فقراته، ليردعها ويجبرها على الالتزام بالقانون والدستور. ذلك ما يراه الخبراء السياسيون فيما يفضل علماء النفس والاجتماع السياسي مصطلح (الاحتجاج الجمعي) ويصنفونه الى نوعين:تمرّد غوغائي لمحرومين( رعاع أو حثالة) يقعون في أسفل الهرم الاقتصادي للمجتمع،واحتجاج سياسي لأفراد من طبقات وفئات اجتماعية متنوعة تشعر بالمظلومية وعدم العدالة الاجتماعية. وحديثاً توصل العلماء المعنيون بدراسة سلوك الاحتجاج السياسي في الصين ودول اخرى الى أن السبب الرئيس لقيام الناس بالتظاهر ناجم عن الشعور بالحيف والحرمان والمظلومية وهدر لكرامة الإنسان والإحساس باللامعنى والاغتراب،والشعور باليأس من إصلاح حال كانوا قد طالبوا بتغييره نحو الأفضل وما استجابت الجهة المسؤولة لمطالبهم. ونضيف بأن سلوك الاحتجاج بوصفه ناجم عن مظالم اجتماعية وعدم عدالة اقتصادية يؤدي الى قهر وضغوط نفسية تتجاوز حدود القدرة على تحمّلها.
وللتذكير ،فان العراقيين منذ سبع سنوات كانوا يتظاهرون،ولكم أن تتذكروا يوم ارسلت (الخضراء) أحد (مناضليها) ليعطي الأوامر من على سطح العمارة المطلة على ساحة التحرير بقمع المتظاهرين في شباط 2011 .
وللأسف فان القوى الأمنية من ذلك الحدث،كانت ملتزمة بثقافة الأنظمة المستبدة.ومع إنه لا يراد منها أن تتضامن مع محتجين في فعل سلمي يتظاهرون من أجل إحقاق حق يخص شعباً ووطناً..فإن ما قامت به من تصرفات في (17 و 20 تشرين الثاني 2015) بالاعتداء على المتظاهرين بالضرب والكلام البذيء واعتقال أكثر من 25 منهم ما أساءوا الى احد،والطلب منهم التوقيع على تعهد بعدم المشاركة في التظاهرات،وما تعرض له أهالي قضاء المدينة في محافظة البصرة في أثناء قيامهم بداية تموز (2018) بتظاهرة سلمية مجازة رسمياً، وقيام القوات الأمن بالتصدي العنيف للمتظاهرين بإطلاق النار بالرصاص الحي بشكل عشوائي نجم عنه استشهاد الشاب (سعدي يعقوب المنصوري) وجرح ثلاثة متظاهرين ،ليؤكد مجددا بأن السلطة لم تتخلص بعد من ثقافة الاستبداد بخصوص سلوك الاحتجاج السياسي التي يفترض فيها ان تستبدلها بثقافة الزمن الديمقراطي.ولم تفهم بعد ان الاحتجاج ليس تمرّداً على السلطة،ولا يهدف الى إسقاطها،وإنه ينبغي أن تتحول ثقافتها في الزمن الديمقراطي الى حماية المحتجين والحفاظ على سلامتهم ورصد المندسين والمجرمين الذين يستغلون المناسبة لنهب ممتلكات المواطنين ومؤسسات الدولة.
وتوثيقاً لما حدث فقد تم اغلاق ميناء أم قصر في( 13 تموز 2018 ) من قبل المتظاهرين،وأغلقوا أيضاً منفذ سفوان الحدودي،ووصل متظاهرو البصرة الى بوابات فندق شيراتون الدولي بمركز المدينة،واطلقت القوات الأمنية الرصاص على متظاهرين في غرب القرنة،وقامت قوات أمن ذي قار بفتح خراطيم المياه لتفريق المتظاهرين الذين احتشدوا أمام بيت المحافظ،وتظاهر المئات وسط مدينة النجف واقتحام آخرين مطارها احتجاجا على تردي الخدمات استشهد منهم مواطنان شابان. وشهدت ميسان تظاهرات قتل فيها شخص واصيب 18 ناجمة عن اطلاق ناري اغلبهم من القوات الأمنية بحسب مدير صحة ميسان،فيما قام آخرون بقطع الطريق الرابط بين ميسان والبصرة،وأطلقت القوات الأمنية النار لتفريق متظاهرين أمام مبنى محافظة ميسان.وبحسب الاعلام الأمني(13 تموز 2018) فانه وقعت اصابات بين ضباط ومنتسبي الأجهزة الأمنية خلال التظاهرات، فضلا عن إحراق وتخريب عدد من المؤسسات والأجهزة التي بداخلها.
وفي الديوانية،اقتحم متظاهرون مبنى الحكومة المحلية،فيما استشهد ثلاثة مواطنين في تظاهرات مدينة السماوة.وفي 14 تموز 2018 ،أعلن رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي(الشخصية التسويفية) الحالة القصوى ودرجة الأنذار(جيم) وإعلان حالة التأهب الأمني في محافظات العراق كافة..وعصر اليوم ذاته،تم ايقاف عمل الانترنت،ونشاط التواصل عبر الفيسبوك بشكل خاص.
واللافت بمفارقة مدهشة ،ان كل التظاهرات حدثت في المدن الشيعية ضد حكومة رئيس وزرائها وأغلبيتها شيعة،فيما أهالي المحافظات الغربية وإقليم كوردستان..يراقبون متفرجين!
والمشكلة في الحكومة العراقية إنها لا تعترف بقساوة المعاناة التي يعيشها العراقيون مع أن العالم يشخّصها بوضوح، إذ يرى عميد مركز الدراسات الستراتيجية والخبير في شأن التظاهرات السلمية واللاسلمية للدول الشرق أوسطية الدكتور « جيني هاريسون " بأن العراق هو " البلد الوحيد الذي يواجه أزمات خانقة ومستعصية" ،وإنه "يعاني هجمة غير مسبوقة من الظلم والفساد والأرهاب , وأحزاب متصارعة ودستور ضعيف وغياب ملامح الدولة الرصينة مع إضمحلال أغلب الضمانات " وإن "المواطن العراقي الذي تنفس الصعداء بزوال أصدقاء الرئيس واتباعه، فوجئ بأتباع جدد جلّهم منتفعين يمارسون الترهيب ويستولون على المال العام دون حساب"*.
والحقيقة الموجعة،أن السلطة لم تحقق أي انجاز مفيد للناس ولا أي إعمار للوطن على مدى خمسة عشر عاماً، وأن أحزاب السلطة اعتبرت العراق ملكاً خالصاً لها فانشغلت بان فتحت أبواب خزائنها لنهب ثرواته في حال يشبه جهنم،يقولون لها هل امتلأت تقول هل من مزيد!..لتؤكد حقيقة أخرى اثبتت الأحداث صحتها هي أن الحاكم الذي يسقط اعتبارياً وأخلاقياً في عيون شعبه فانه يتحول الى مستبد يفهم إن قمع التظاهر هو الوسيلة الوحيدة لبقائه في السلطة،وجزع العراقيين ونقمتهم على أحزاب الإسلام السياسي تؤكدوا هتافهم في تظاهراتهم (ما نريد حاكم ملتحي..نريد حاكم يستحي).
( في الحلقة القادمة..نستكمل التظاهر بالمفهوم العراقي)
جميع التعليقات 2
نادر
ممتاز دكتور
عقيل خليل ناصر
مقالة من قلب الحدث بالتوثيق والتحليل والموضوعية والحياد ...تصلح مقالات للتأريخ تستفيد منها الأجيال القادمة لتصحيح مسار العلاقة بين الحاكم والشعب..وأفكار إيجابية للحكام المستبدين علهم يستفيدوا من معطياتها ..دمت استاذنا