د. فالح الحمـراني
لقد تغير الاصطفاف الاجتماعي والسياسي، وعليه ينبغي وضع أسس جديدة للعملية السياسية الشعوب تستفتي على مؤسستها الحاكمة وللتعبير عن رَأْيَهُا وتطلعاتهاِ بطرق متعددة،
بما في ذلك عن طريق الاحتجاج والمظاهرات، وأجرى الشعب العراقي في مطلع تشرين الأول استفتاءً جديداً على المؤسسة الحاكمة منذ 2003في العراق بكل فروعها، وأعلن حكمه في قصور أداء مؤسسات الحكم القائمة في تحقيق تطلعات الشعب، وجسدها بالاحتجاجات، التي اكتسبت زخماً فاجأ السلطات والأحزاب السياسية، وغدت من دون جدل برهاناً ساطعاً، على أن الشعب العراقي بكل شرائحه ومكوناته، صوَتَ ضد طبيعة العملية السياسية القائمة التي باتت تصب باتجاه حتى غير وطني، وقال ضد تقسيم المجتمع الى طوائف وعشائر وبِطانات، ضد المحاصصة في توزيع النفوذ والمناصب، وخيرات البلد، وحصرها بيد فئة محددة من الجماعات والطوائف، صوت ضد المحسوبية والمنسوبية المقيتة، ضد تهميش الجماهير وهضم حقوقها، ضد استشراء الفساد الحكومي والتباطؤ في محاربته، فالجميع متورطين.
إن هذا الاستفتاء الواسع، كفيل في الدول الديمقراطية حقاً، أن يؤدي الى إقالة المؤسسة الحاكمة ومن يقف وراء تشكيلها، وإعادة النظر في طبيعة العملية السياسية، كي تأخذ بنظر الاعتبار التحولات والتغيرات التي شهدتها البلاد منذ 2003، إن الوعي الاجتماعي قد تغير جوهرياً وتقدّم على المؤسسة الحاكمة، بفعل الواقع السياسي والاقتصادي الجديد، ولم يعد يقبل بالنتائج الأولية التي افرزها الاحتلال الأمريكي، وما ترتب عليها من نظام سياسي برهن في الممارسة على انه لم يعد مناسبا للعراق، فقد نهضت أهداف وتطلعات جديدة أمام البلاد، ينبغي ان لا تستمر العملية السياسية بعد الآن بمثابة ردة فعل على ممارسات النظام الديكتاتوري المقبور، ولا استخدام أساليبه في القمع والتهميش والاستئثار بخيرات البلد، ينبغي تجاوزه والانتقال الى بناء دولة عصرية بحق. دولة العدالة والديمقراطية، دولة المواطنة التي تقوم على القانون.
إن أي تغيير إيجابي في العراق غير ممكن من دون إجراء تعديلات هيكلية في الأسس القائمة للعملية السياسية، التي تشكلت لوضع سياسي آخر، وضع مرحلي وانتقالي، تحت ظل الاحتلال، وتشكلت باندفاع، وعلى عجلة، تحت ضغط الظروف، وبمشاركة أجنبية واسعة. لقد تغير الاصطفاف الاجتماعي والسياسي، وعليه ينبغي وضع أسس جديدة للعملية السياسية، تأخذ بالاعتبار تلك المتغيرات. إن لجنة الخبراء التي تدعو الحوزة العلمية لتشكيلها مبادرة هامة، لكن يجب أن تكون لجنة محايدة، من خارج المؤسسة الحاكمة، ومن الخبراء المشهود لهم بالنزاهة والوطنية الحقة، وعليهم إجماع وطني، الذين لا تحوم الشبهات حولهم، وأصحاب الخبرة في الاقتصاد والقانون والسياسة، وفي هذه الحالة لا ينبغي تجاهل عراقيي الخارج، فبينهم عقول ومؤهلات وأكاديميين حظوا بالاعتراف والاحترام في المهنية، للمشاركة في هذه اللجنة.
و لا يجب أن تخلد مؤسسات الحكم الى الراحة بعد تهدئة الأوضاع، مادامت إنها لم تجد الحلول الناجعة والصحيحة، ولم تسمع بانتباه واهتمام الى صوت الناخب الذي انتخبها، فهو ما زال يمتلك الحق بسحب الثقة عنها، وهو عملياً سحبها عنها. لكنها وظّفت قوى الأمن لحمايتها من الغضب، وورطت الجندي العراقي بقتل أخيه العراقي الأعزل، الشهداء لم يذهبوا هذه المرّة على يد مسلحي داعش!.
لنتذكر، أن الشعوب لن تصمت على انتهاك حقوقها، في العيش بأمان وبكرامة في بلدها. وينبغي أن لا تتناسى المؤسسة الحاكمة أن اعتمادها أساليب الأنظمة السابقة بالقمع ونشر الرعب والتخويف لن يطيل من عمرها، وما زالت في ذاكرة الشعب العراقي مذابح جسر الشهداء، وسحق الانتفاضة الشعبانية المجيدة، بالدبابات والطائرات وتدمير مدن، وكوارث النجف وحلبجة والدجيل، وأن تلك المذابح لم تضمن البقاء الأبدي للأنظمة التي مارستها.
ومن دون شك أن لجوء المؤسسة الحاكمة للقوة المفرطة في مواجهة احتجاجات سلمية وتوجيه البنادق لصدور شباب عزل، مسلحين فقط بحناجرهم التي طالبت بحقوقهم المشروعة، يوشي بخوفها من تحولها الى ثورات شعبية عارمة ذات زخم واسع، كما حدث مؤخراً في الجزائر والسودان، وما ترتب عليها من إحداث تغيرات هيكلية في الأنظمة الحاكمة. فالمؤسسة الحاكمة في العراق تدرك أن الآلاف التي شاركت في الاحتجاجات، هي الشريحة النشطة اجتماعياً التي تمثل مختلف الطبقات، وأن هناك الملايين التي تدعمها وتشاطرها الموقف، وقد تنضم لها في أي مرحلة، لذلك راحت الأصوات الرسمية، بعد إراقة الدماء، تتحدث بلغة لينة، مثل أن أصواتكم مسموعة ومطالبكم حقة. وطرحت مشاريع تجميلية ومؤقتة لا غير، واتخذت قرارات ليس هناك ثقة بأنها ستخرج للنور، أو لن تذهب لحسابات مشبوهة!.
إن الوضع المترتب بحاجة لحلول جذرية. فوفقًاً للبنك الدولي ، تتمتع البلاد بمستوى عالٍ من بطالة الشباب: تبلغ حوالي 25٪. كما يحتل العراق المرتبة 12 بين أكثر الدول فساداً في العالم ، وفقًاً لمنظمة الشفافية الدولية. اعتباراً من تشرين الأول 2017 ، يعيش 35٪ من السكان العراقيين تحت خط الفقر ، وهذا في الواقع أمر متناقض مع قدرات العراق: فمن حيث احتياطيات النفط، يحتل العراق المرتبة الثالثة! في العالم بعد المملكة العربية السعودية وإيران: ويمثل العراق أقل قليلاً من 10 ٪ من جميع احتياطيات النفط المؤكدة في العالم.
وفي موسكو غطت العديد من وسائل الإعلام سير الاحتجاجات، كما تناولتها المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في إحاطتها الأسبوعية بالتعليق، منوهة ب "الإشتباكات بين المتظاهرين، ورجال حفظ النظام". وفي معرض رده على سؤال في إطار حديث لصحيفة " الازفيستيا" قال نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي فيرشينين " "نحن نؤمن بقدرة الشعب العراقي على التغلب على هذه المشاكل. لقد كان العراق دائماً واحداً من أكثر الدول الغنية بالموارد في المنطقة. وتتحرك البلاد ببطء ولكن بثبات نحو استعادة الوحدة الوطنية والحوار. وهذا مهم للغاية، وخاصة مع مراعاة ما عاناه العراقيون بعد العدوان الذي شنته الولايات المتحدة قبل سنوات عديدة.
ورصداً للأحداث عرض تقرير لمعهد الشرق الأوسط في موسكو، رسم فيها للقارئ الروسي صورة للتطورات الاحتجاجات ورصد خلفياتها، معيداً فيها الأذهان الى أن الاحتجاجات المناهضة للحكومة اندلعت في آن واحد في عدة محافظات في العراق احتجاجاً على سوء الأحوال المعيشية والبطالة والفساد. ومبرزا مطالب المتظاهرين في بغداد وكربلاء والبصرة والديوانية والناصرية، باستقالة الحكومة. وفي إشارته الى استخدام القوة المفرطة قال : تصاعدت المظاهرات السلمية في وقت لاحق إلى اشتباكات مع ضباط الشرطة الذين استخدموا خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين. حتى حاول المتظاهرون الدخول إلى "المنطقة الخضراء" للعاصمة العراقية ، حيث توجد السفارات الأجنبية والهيئات الحكومية. وأضاف "عندما خرج الوضع عن السيطرة، بدأت قوات الأمن في استخدام الأسلحة النارية. وخرج المتظاهرون ، وكثير منهم من طلاب الجامعات، إلى الشوارع احتجاجاً على ما أسموه "فساداً صارخاً للحكومة وعجزها عن توفير ظروف معيشية لائقة وخلق فرص عمل للعراقيين". وقال أحد المحتجين لرويترز "ما لدينا ليس هو الحكومة، إنها مجرد مجموعة من الأحزاب والجماعات المتمردة التي دمّرت العراق".
وذكر أن الاحتجاجات المماثلة وقعت في العام الماضي في العراق، ولكن بعد ذلك بدأت في الجنوب (حيث يعيش عدد كبير من الشيعة) ، والسبب هو سوء الأحوال المعيشية، وانقطاع التيار الكهربائي المستمر ونقص المياه النظيفة. كما جرت مظاهرات ضد الفساد والرشوة والبطالة في منتصف تموز الماضي، ومع ذلك، كلهم كانوا أقل طموحاً مما يحدث الآن، وأشار مراقبون سياسيون إلى أن الشعب سئم من عجز الحكومة عن تلبية مطالبهم. علاوة على ذلك ، كما قالت ، "هذه المرّة لا يتعلق الأمر بالكهرباء فقط ؛ جذور المشكلة أعمق بكثير. وخلص تقرير معهد الشرق بالإشارة الى أن الوضع الوقت الحالي، ما زال متوتراً، "لأن بغداد الرسمية تخاف من الإحتجاجات الجديدة للمتظاهرين".