لطفية الدليمي
بحثت عنك في ألواح القدر وبين سطورالملاحم والتعاويذ وتراتيل معابد الأمس، سألت وحش غابة الأرز المتربص بسلالتك فما حظيت بجواب ،
ركضت في قصائد الخليقة وتقلدت مراثي أورالحزينة حين غاب بهاء جبينك ،وتبعت أوهام فؤادي، فما وجدت ضريحا يتسع لفواجعك ، فأين مضوا بك يابُنيّ ؟
أيها العراق النبي كيف جراحك ؟؟ أعلم يابُنيّ أن الذئاب افترست لحمك، واستباح القاتلون حرمة وجهك الفتيّ، فمتى يحيق بقاتليك العقاب ، اؤلئك الذين دججوك بالأكاذيب ووضعوا على جبينك وصمة الخنوع، لكنك فاجأتهم بأبنائك ، أذهلتهم بفتيان كالمعجزات، أيها العراق النبي، كم نبوءة مرّت على دهورك وأنت ترتقي وتهبط ويحيق بك الطوفان وتداهمك المهالك ويتوهم قاتلوك هزيمة روحك، لكنك تباغتهم بصرخة الفتى وزلزال الغضب.
رأيتهم ذات جنون يعلقون أشلاءك على المحاريب والمنابر وشرفات الحكم ، فجمعت الأشلاء ولحمت جراحك بدموعي و نسيج العنكبوت وبُقيا دمائك ، ثم ضيعوك في جنون السلابين، وأعلنوك أضحية على محارق الشاشات وطالتك أقاويل شماتتهم وهم يلِغون في دمائك، وشهدت ميراثك يتبدد بينهم ، تتنازعه فلول الغاربين المهزومين وشهوات القادمين إلى وليمة القسمة.
ثم نأيتَ عنا وفقدناك ثانية ورابعة : موهوا وجهك وأخرسوا صوتك، ثم علقوا أشباها لك في الساحات وأعلنوا موتك.
في حومة الموت تخذلنا اللغات ونحن نندب الجمال وننوح على فتانا الذبيح ، ويفورالغيظ في عروقنا لدى اشتداد النار واحتراق الضحايا، تخاصمنا أبجديات الكلام وتنمسخ المعانى في البيانات: لغة بلا قلب وسلالة أخرسها الهول والتغاضي، بغتة تهبّ الجموع غاضبة بلا حول سوى دمها المنذور لك ،تترامى وجوه الفتية بين الظمأ ونيران التنانين ،ولامغيث لهم سوى إسمك ..
بغتة أراك ،أهذا أنت؟ أراك وعلى مفرقك تاج من جماجم إخوتك وعباءتك أحلام مضرجة باحتضارهم. وفي عنقك قلادة من أصابع البنات المقتولات ، فأنكرك ثانية ، أهذا أنت يا وطني؟..
أبحث عنك في رعشة المواقيت وحشرجة الدهور، وأراهم يشهرون رأسك على مداخل القاعات وأبواب المدارس وفوق المصانع المهجورة والحقول المحروقة ويدونون آياتك على جثامين الفتيان ويرسمون وجها يشبهك بين عويل الأمهات الثاكلات وأنين المحتضرين، ويعلنونه بديلا لك ، فأين أنت ؟؟
رأيتهم يابُنيّ يتقاذفون قلبك الدامي بين المواثيق الزائفة وأوراق البيع وعقود الصفقات ،ورأيت اللصوص يعلقونك شارة براءة على ياقاتهم الثمينة ويطؤون أحلامك بمطامعهم، ويوصدون الأمل على نظرتك،رأيت الجلادين يابُنيّ يحفرون إسمك على المعاول والقنابل وبنادق القنص وباسمك يوزعون الموت على الطرقات و يواصلون تجميل المقابر بفتيانك المغدورين.
رأيتهم يابُنيّ يسملون عينيك القمريتين،وبوجهك البابلي يرقمون السبائك وحلي المحظيات ويدمغون الكنوز ببصمات أصابعك المقطوعة،ورأيتهم يلقون بأعضائك المبتورة في ملتقى أقاليم العرب مثلما فعل الأسلاف بإله الزروع دموزي وكما فعل الكهنة بأوزيريس وكما فعل سكان الأوليمب بأورفيوس، فكيف سأجمع أشلاءك المبعثرة؟ وكيف سألملم دمك الذي تفتح أزهار شقائق في المروج ؟ ومتى سيأتى ربيع قيامتك يا دموزي؟
بحثت عنك في الأصوات الجهيرة وهمس الظنون، فداهمتني المارشات الجنائزية وصرعتني ضربات الطبول وتناوبتني أبواق القبائل وأهازيج النواح وصنوج الدراويش،وهتفت باسمك: أين أنت؟ وأين كنت؟ وأين تمضي بك الأهوال ياوطني ؟؟
يهمسون لي:- أما سمعته يتعالى في مقام الصبا؟؟
أنصت ملياً فلا أسمعك ،أعدو فى هزيع الخراب مقتفية نغمتك الشجية فلا أجدك،واصرخ فى لوعتى:
- أين أنت يا وطنى؟؟
، أسأل الغرانيق وطائر الشقراق النواح، أسأل الأقحوان، أناشدهم أن يأخذونى اليك لأقتفى وردة صوتك فى السهول فيخدعنى العبير، ويراوغنى السراب وأطلبك، فيلوح لى دخان يغبش نورك، فأين أنت الآن يا وطنى؟؟