ستار كاووش
ها انا أجد نفسي واقفاً ببساطة بين جدران أول أكاديمية للفن في العالم! والتي تحولت الى واحد من أهم وأجمل متاحف ايطاليا، وأقصد هنا أكاديمية فلورنسا التي تأسست سنة ١٧٨٤
حيث لم توجد قبلها أية أكاديمية لدراسة الفن في هذه المعمورة، وهذه المسألة تعني الكثير للفنانين ودارسي الفن والمؤرخين وباحثي الجمال، فكأنك هنا تتعرف على أقدم شجرة في العالم أو أقدم مكتبة صنعتها البشرية أو ربما يشابه ذلك أيضاً وقوفك وسط أول متحف بُنِيَ في هذه المعمورة.
وكلمة أكاديمية تعود لمدينة أثينا قبل أكثر من ألفي سنة، وبالتحديد لإفلاطون الذي كان يعطي دروسه في مكان يطل على حديقة إسمها أكاديموس، ومنها إشتق الاسم فيما بعد للأكاديميات الفلسفية والعلمية وحتى العسكرية، أما بالنسبة للفن فأكاديمية فلورنسا تأريخياً هي باكورة كل الأكاديميات.
يالي من محظوظ إذن وأنا أتطلع هنا الى الجدران قبل اللوحات، وأتفحص السقوف قبل المنحوتات، وأثبت نظري نحو بلاط الارضيات القديم قبل أن أتنفس عبق التاريخ وأشم رائحة ماضٍ مليء بالجمال. هنا إنشَغَلَ بمزج الألوان أول طلاب للفنون في العالم وفي هذه الصالات أعطيت الدروس الأكاديمية الأولى في النحت، وهنا تم تطوير مهارات التخطيط وَتـعلُّم التكوين ودراسة المنظور، وتحت قبة هذا البناء مُنِحَتْ الشهادات الأولى للكثير من عباقرة الفن. سرت قليلاً داخل الأكاديمية، فإنفتح أمامي رواق طويل إستقرت على جانبيه سبع منحوتات كبيرة لمايكل أنجلو وبحجوم قاربت المترين، لكنها غير مكتملة، وبدت كأنها سلسلة تكمل بعضها بسبب حركاتها الانفعالية والدراما التي تنبعث من إيماءات شخصياتها التي تتحرك وكأنها تريد الانعتاق من كتلة الحجر الزائدة التي تحيطها والتي لم ينته نحاتنا العظيم من ثلمها وبقيت على هذه الحال بسبب وفاته، وهنا عرفتُ قيمة مقولته الشهيرة حين سُئل عن سر إنجاز تماثيله بطريقة مذهلة من الإتقان وكأنها كائنات حيّة، فقال (هذه الشخصيات التي أنحتها موجودة أصلاً داخل الحجر، وما عليَّ سوى أن أرفع الزوائد عنها لتظهر للعيان).
جلستُ برهة على أريكة داكنة من الحجر، كي أستوعب المكان وأهيء نفسي أكثر للجمال وأنا في حضرته، وما إنْ نهضت من جديد وسرتُ بضع خطوات، حتى تسمرتُ في مكاني وأنا أرى النسخة الأصلية لتمثال دافيد بمواجهتي، هذا العمل الذي أمضى مايكل أنجلو قبل أكثر من خمسمائة سنة، ثلاث سنوات في نحته (١٥٠١-١٥٠٤)، بدا دافيد يقف بإرتفاعه الذي يصل الى خمسة أمتار، منتصباً وسط الأكاديمية في ما يشبه الساحة المستديرة لكي يتاح للناس مشاهدته من كل الجهات، يعلوه سقف زجاجي ينثر ضوء النهار على كتفيه وهو يقف مرتكزاً على إحدى ساقيه وكأنه يتأهب للحركة بجسده اليافع وعينيه الواثقتين وشعره المجعد على طريقة التماثيل الرومانية القديمة، يمسك بيديه طرفي المقلاع الذي أحاط به ظهره، بينما تستقر بيده اليمين واحدة من الأحجار التي رماها على العملاق جالوت حسب الكتب المقدسة. حين إنتهى مايكل أنجلو من هذا العمل، طلب أن يوضع في مدخل قصر فيشيو بساحة سنيورنا، وكان له ما يريد رغم إعتراض دافنشي وقتها على ذلك. وبعد مرور بضعة قرون نُقِلَ التمثال الى مكانه الحالي في الأكاديمية سنة ١٨٧٤، وقد صُنِعـَتْ له عربة خاصة من الخشب لغرض نقله بأمان، ليستقر في هذا المكان منذ ذلك الوقت.
هنا عرفت لماذا يعتبر هذا العمل واحداً من أعظم الأعمال على مر العصور، في هذا المكان شاهدت وتحسست كيف تحولت قطعة المرمر الكبيرة الى مشاعر وأحاسيس، كيف جعل مايكل أنجلو قطعة ضخمة من الحجر تتحول الى أسطورة فنية وكنز لا يقدر بثمن، كيف حوَّلَ الجماد الى جمال وصنع من الكتلة الصماء حياة، نعم هنا وقفتُ في حضرة إبداع لا يغيره الزمن ولا تمحو قيمته المدارس المتعاقبة، إنه دافيد، أشهر منحوتات عصر النهضة، ذلك العصر الذهبي الذي إنبثق وتأسس في فلورنسا ليعم إيطاليا التي أمسكت بتقاليد الجمال من خلال هذه المدينة لتترك بصمة حضارتها فيما بعد على كل العالم.