TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > نافذة من موسكو..المبادرة التاريخية للشعوب تُنهي عصر الأحزاب التقليدية

نافذة من موسكو..المبادرة التاريخية للشعوب تُنهي عصر الأحزاب التقليدية

نشر في: 27 أكتوبر, 2019: 06:52 م

د. فالح الحمـراني

الجماهير العراقية بحراكها من أجل حقوقها المشروعة وتضحياتها المجيدة بالأرواح، تقدمت بحسها التاريخي شوطاً بعيداً على وعي الأحزاب السياسية التقليدية،

التي انشغلت بشكل محموم في تقسيم النفوذ والسلطة والموارد المالية، والبحث بلهفة عن كرسي غير مشغول في البرلمان، وتناست وظيفتها التي انتخبها الشعب من أجلها، بناء وطن جديد على أنقاض الديكتاتورية المقبورة. وبرهنت تلك الجماهير ليس على عدم فعالية الأحزاب التقليدية، وحسب، بل وعلى أن لا طائل من وجودها، فالجماهير تتحرك بنفسها لتعلن عن مطالبها، إنها أكبر حجما وزخماً من الأحزاب.

لقد بلورت بحسها وممارستها اليومية بأن الافتقار إلى الوظائف، وعدم المساواة الاجتماعية، والفساد، وعدم كفاءة الحكومة، واعتماد أسلوب المحاصصة في توزيع المناصب الحساسة، بل وحتى الأدنى منها، وعدم كفاية البنية التحتية هي الأسباب الداخلية الرئيسية التي أدت إلى احتجاجات جماهيرية في العراق هذه الأيام. لكن إلى جانب المشكلات الداخلية، هناك أيضاً تأثير للعامل الخارجي، وقد تكمن وراء كل ذلك الأسباب التي خلقت الصعوبات لحكومة عادل عبد المهدي حل المشكلات الداخلية.

الأحزاب السياسية التقليدية، ذات البناء الهرمي والمركزي، وتهميش الأعضاء وتحويلهم لبيادق في رقعة الشطرنج السياسية وفرضها الحصار على كل فكر نقدي، التي تنامت في الدول النامية والعراق من بينها العراق، غدت هياكل سياسية قديمة، لا تتناسب وروح العالم المعاصر. فعالمنا المعاصر يشهد تحولات هيكلية عميقة، نسفت الكثير من التناقضات والتناحر بأشكالها القديمة ومسبباتها، وخلقت الجديد منها. وانعكست تلك التحولات وما نجمت عنها من ظاهر، على تركيبة الطبقات التي طمست سماتها. فضلاً عن ذلك تغيرت مراكز القوى المحركة للتاريخ في كل مجتمع على حدة. لقد رصد العديد من المفكرين ( هربرت ماركوز) منذ الستينيات باكورة تلك التحولات التي أخذت في السنوات الأخيرة شكلها الأوضح،. وكان ماركوز قد اعلن ان الطلبة والشباب والمهمشين، هم البديل للطبقة العاملة في العالم الرأسمالي، وهم مرجل التحرك الثوري . وتخطت اليوم الجماهير بوعيها الأحزاب التقليدية، التي تكلست عقليتها في شعارات وأساليب معطوبة، تنكر روح الجماهير المبدعة، وتشيح بنظرها عن الجديد، وتخلق الأساطير عن التاريخ والأبطال، ولا تتخلى عن الأطر التي أعدتها مسبقا لمسيرة العملية السياسية والتاريخ، وباتت الجماهير بحسها تميل الى المبادرات التاريخية، في مختلف الأشكال. تقف وراءها قيادات دينامية، غير متغطرسة، تنفذ أدوارها حسب الضرورة. 

وبرهنت على ذلك بشكل ساطع التحركات الجماهيرية العاصفة في بغداد وبيروت وقبلها الجزائر والسودان، وفي مناطق أخرى من العالم. فقد هبت الجماهير في هذه العواصم لتعديل مسار التاريخ، الذي انحرفت فيه قوى حزبية تقليدية، جاءت بشعارات وخطاب ديني ووطني وقومي وإنساني، ولكنها خانت نفسها، وبدلا من بناء الوطن وتأسيس قاعدة اقتصادية حيوية، ونظام دولة فعالة، راحت تتصارع على تقسيم التدفقات المالية التي تنوي الحكومات توظيفها لتنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية الخطيرة. وأظهرت إن تاريخي ان عصر الأحزاب السياسية التقليدية قد انتهى، أو أنها ستكتسب شكلاً جدياً، لقد خاب أمل الشعوب بالأحزاب التقليدية، التي تاريخيا تتنكر لأيديولوجياتها وعقائدها حينما تحصل على كرسي الحكم، وتبدأ القتال من أجله تحوله الى هدف وليس وسيلة، بل وتدخل في صراعات ليس مع شعوبها وحسب، وإنما تنشب المعارك في كتلها الداخلية، وكل مُطَلِع ولو بشكل سطحي على تاريخ النظام السياسي العربي الحديث، وليس وحده، يلمس هذه الظاهرة. لقد كانت الأحزاب التقليدية، ظاهرة لمرحلة نزلت عليها ستارة التاريخ. الحراك السياسي انتقل الآن الى مرحلة تحرك الجماهير بنفسها، الجماهير التي تتحلى بوعي مصلحتها، وحقوقها، ومصالحها، إنها وجدت اليوم وسائل جديدة لتنظيم نفسها وبلورة أفكارها، ومن غير المحتمل أن يتمكن أي كيان اجنبي واحد من الاستفادة من الحراك الجماهيري في العراق. في هذا الصدد ، نلاحظ أنه ينبغي البحث عن المنظمين الرئيسيين لهذه الاحتجاجات داخل العراق ، على خلفية ضعف الحكومة العراقية بشكل خاص. فهناك اختلافات كبيرة بين فصائلها، خاصة داخل النخبة الشيعية ، فيما يتعلق بتوزيع السلطات والنفوذ. 

إن الجماهير تتحرك بوعيها من دون أحزاب قيادية لها في أجزاء مختلفة من العالم. في العراق، تخرج الجماهير إلى الشوارع بسبب الفقر والبطالة والظروف المعيشية المرعبة والفساد. فخلال الخمسة عشر عاماً التي انقضت منذ الإطاحة بنظام الدكتاتورية ، لم يشهد مواطنو البلد تحسينات في حياتهم. وفي كثير من الجوانب، ساءت حياتهم. وتتحمل الحكومات المتعاقبة المسؤولية على دخول داعش وسيطرته على مساحات شاسعة من العراق، وعن الإخفاقات، وعدم حدوث التغييرات المطلوبة. فالصراع الداخلي بين المكون الشيعي والسني لم يختفِ. قبل حوالي شهر من الأحداث الجارية في بغداد، شهدت البصرة تحركات جماهيرية. وكان السبب بما في ذلك التسمم الجماعي لمياه الشرب ذات النوعية الرديئة ولكن الغضب الجماهيري طال مقر الجماعات الشيعية شبه العسكرية وقنصلية إيران. بالطبع ، لم يسمم مبعوثو طهران المياه في المدينة، ولكن الشعور بعدم الرضا عن النفوذ المتزايد للجمهورية الإسلامية ليس فقط في واشنطن ولكن أيضاً في العديد من المناطق السكنية العراق ذات الأغلبية السنية.

وتحوّلت الشبكات الاجتماعية، كالصحيفة الحزبية التي تحدث عنها الزعيم البلشفي فلاديمير لينين، الرابط الذي يجمع القوى المتبعثرة ويعبأ القوى، من خلال الرسائل الفورية التي تلعب دورًا كبيرًا في التعبئة السريعة للجماهير في الشوارع. وحاولت السلطات العراقية منعها بمجرد اندلاع الاحتجاجات، وعلى ما يبدو كانت من دون جدوى، حيث استحدثت العديد من الطرق لتجاوز الأقفال. وكل يوم يتم اختراع المزيد والمزيد منهم. وتستخدم نفس التقنيات في جميع أنحاء العالم. غالبًا ما سميت أحداث "الربيع العربي" بثورات تويتر بسبب كيفية استخدام هذه الشبكة الاجتماعية للترويج للاحتجاج الاجتماعي. 

إن العالم الغربي ودول آسيا أيضاً تشهد ظاهرة التحرك الجماهيري المنفصل عن القيادة الحزبية، وهناك حركات الخضر والتيارات المناهضة للخضر، التي بات لها حضور ملموس في السياسية الأوروبية، وضمن هذا السياق حركة "السترات الصفر" في فرنسا التي أعادت تأكيد نفسها. وذكرت "السترات الصفراء" أنها لا تريد أن يكون لديها ليس أي منظمة رسمية فحسب، بل وأيضاً برنامج سياسي. والتحركات الجماهيرية الواسعة في هونغ كونغ. ومرة أخرى في كييف. ولا تهدأ في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. القاسم المشترك بين هذه الحركات إنها لم تخرج من تحت معطف أو خيمة الأحزاب، بل بدافع من حسها.

إن الجماهير الأوروبية مثلها مثل شعوب الشرق الاوسط وآسيا تتحرك بوعيها. ففي أوروبا وعلى خلفية وقوع منطقة اليورو بشكل متزايد في حالة ركود (إن لم يكن الركود). يجري الضغط على سكان الاتحاد الأوروبي بزيادة الضرائب واللوائح الإدارية ، وهم غير راضين عن تدفق المهاجرين وارتفاع أسعار الوقود، كل هذا قد يدفعها الى المزيد من الاحتجاجات بعد خاب أمها بالاعتماد على الأحزاب التقليدية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمدعبدالمطلب ساتى على

    مقال رائع مع جزيل الشكر لكاتبه الاعلامى المتميز د فالح الحمرانى .

يحدث الآن

المنافذ تحقق أكثر من 2.2 تريليون دينار إيرادات جمركية في 2025

التشكيلة الرسمية لمنتخبنا الأولمبي لمواجهة عُمان ببطولة كأس الخليج

الأمم المتحدة: 316 مليون متعاطٍ للمخدرات عالمياً

القضائية تستبعد نجم الجبوري من مقاعد نينوى الانتخابية

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram