ثمة علاقة مضطردة تنشأ بين الحكومات منقوصة الشرعية والانتهازيين المنتفعين الذين نذروا جل حياتهم للتملق إلى السلطة بهدف إشباع حاجتها ونهمها للشرعية الزائفة ، عبر التاريخ عرفت الشعوب حاجة قصوى للسلاطين والولاة والحكام ، لشعراء متملقين يلقون القصائد في مدح سياسات القائد الحكيمة مقابل دراهم معدودة أو طلبا للوجاهة الاجتماعية التي تنمو من جراء التزلف قربة إلى السلطان ، والتاريخ أيضا يزخر بهؤلاء (السلاطين ، الشعراء ) منذ معاوية بن أبي سفيان إلى صدام حسين الذي جمع من حوله حزمة من الجلاوزة والكتاب والمؤرخين حرفوا ما استطاعوا تحريفه من التاريخ والمدونات والوقائع اليومية ، فالظلم يتحول في قصائدهم إلى عدالة إلهية ، والسرقة والفساد يتحولان إلى شرف وعفة ، والسياسات الطائشة والحروب تتحول إلى شجاعة للدفاع عن شرف الأمة المستلب !
مفهوم كهذا أصبح مكشوفا ومحتقرا إلى حد بعيد ،فغالبا لا يحظى هؤلاء الشعراء أو المغنون باحترام المجتمعات ،فهم يكسبون المال والجاه من خلال تزلفهم لإشباع رغبات السلطان الذي يملأونه مديحا فارغا وغير واقعي .
في المجتمعات المتحولة حديثا إلى الديمقراطية ،عادة ما يحرص القادة والزعماء السياسيون إلى مغادرة هذه السلوكيات أو حتى الحذر منها سياسيا ، كونها تعيد إلى الذاكرة الدكتاتوريات التي حكمت تلك المجتمعات وبالتالي سيكون المصير فشلا سياسيا ذريعا ، إلا في العراق ، فاستنساخ المفاهيم في إدارة الدولة أصبح السمة الأبرز للحكومة وحتى الزعماء السياسيين في مجلس النواب وغيره من مؤسسات الدولة حتى العسكرية منها ، الصور والحكم والأقوال التي يمن بها الزعيم على الرعية تنتشر على الجدران وفي التقاطعات والشوارع الرئيسة والساحات العامة ، الشعراء الذين يهيمون في كل واد يبحثون عن عطايا تائهة ، قصائدهم في المديح جاهزة تحتاج فقط إلى تغيير الاسم ، أما المطربون والفنانون فلا يختلفون بشيء عن زملائهم (بالفن) الشعراء .
رئيس الوزراء ، حامل لواء الإسلام ومحارب الفساد الأخلاقي ، لم يخرج عن هذه القاعدة ،فهو (يسترطب ) حد الثمالة من يقول له كلمات المديح حتى ينسى أحيانا حملته الإيمانية لمحاربة الفساد والمفسدين ،فهو الذي أمر بإلغاء الفقرات الغنائية والموسيقية من مهرجان بابل .يبعث ببرقية تهنئة وباقة ورد من الطراز الملكي إلى قناة فضائية مختصة بإنتاج الأغاني الهابطة من قبيل (الفيل يطير ، وبلبلة ، وهاجنة ) بمناسبة الذكرى الثانية لانطلاقتها الميمونة لا لشيء سوى لأنها أنتجت أغاني تمجد وتثني على المنجزات العظيمة لدولته ،كان آخرها ( احنه اخوة صلفة ) التي تمجد وتهلل بحمد الرب على القوة الضاربة للقوات المسلحة بقيادة القائد العام ( المفدى ). وأسرني أحد الزملاء وهو قريب من تلك المؤسسة أن رئيس الوزراء أمر بتخصيص قطعة أرض في منطقة راقية في بغداد لبناء مقر لتلك القناة المباركة !
وقد يكون هذا النموذج مفردة من معجم المفاهيم المستنسخة تبدأ بتشريع قوانين مقيدة للحريات ومصادرة للحقوق ولا تنتهي إلى الظلم والاستبداد والافتراء وتحريك ملفات التسقيط السياسي عبر القضاء المغلوب على أمره ، هكذا إذن تستنسخ المفاهيم في إدارة الدولة ، هكذا إذن نستدعي إلى الذاكرة ما كان يقوم به القائد الضرورة المقبور صدام ، هكذا إذن نجسد مفاهيم معاوية بن أبي سفيان ونحن نلطم الصدور ونجزع حزنا على علي وابنيه المظلومين !