TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > استنساخ المفاهيم

استنساخ المفاهيم

نشر في: 11 نوفمبر, 2012: 08:00 م

ثمة علاقة مضطردة تنشأ بين الحكومات منقوصة الشرعية والانتهازيين المنتفعين الذين نذروا جل حياتهم للتملق إلى السلطة بهدف إشباع حاجتها ونهمها للشرعية الزائفة ، عبر التاريخ عرفت الشعوب حاجة قصوى للسلاطين والولاة والحكام ، لشعراء متملقين يلقون القصائد في مدح سياسات القائد الحكيمة مقابل دراهم معدودة أو طلبا للوجاهة الاجتماعية التي تنمو من جراء التزلف قربة إلى السلطان ، والتاريخ أيضا يزخر بهؤلاء (السلاطين ، الشعراء ) منذ معاوية بن أبي سفيان إلى صدام حسين الذي جمع من حوله حزمة من الجلاوزة والكتاب والمؤرخين حرفوا ما استطاعوا تحريفه من التاريخ والمدونات والوقائع اليومية ، فالظلم يتحول في قصائدهم إلى عدالة إلهية ، والسرقة والفساد يتحولان إلى شرف وعفة ، والسياسات الطائشة والحروب تتحول إلى شجاعة للدفاع عن شرف الأمة المستلب !

مفهوم كهذا أصبح مكشوفا ومحتقرا إلى حد بعيد ،فغالبا لا يحظى هؤلاء الشعراء أو المغنون باحترام المجتمعات ،فهم يكسبون المال والجاه من خلال تزلفهم لإشباع رغبات السلطان الذي يملأونه مديحا فارغا وغير واقعي .

في المجتمعات المتحولة حديثا إلى الديمقراطية ،عادة ما يحرص القادة والزعماء السياسيون إلى مغادرة هذه السلوكيات أو حتى الحذر منها سياسيا ، كونها تعيد إلى الذاكرة الدكتاتوريات التي حكمت تلك المجتمعات وبالتالي سيكون المصير فشلا سياسيا ذريعا ، إلا في العراق ، فاستنساخ المفاهيم في إدارة الدولة أصبح السمة الأبرز للحكومة وحتى الزعماء السياسيين في مجلس النواب وغيره من مؤسسات الدولة حتى العسكرية منها  ، الصور والحكم والأقوال التي يمن بها الزعيم على الرعية تنتشر على الجدران وفي التقاطعات والشوارع الرئيسة والساحات العامة ، الشعراء الذين يهيمون في كل واد يبحثون عن عطايا تائهة ، قصائدهم في المديح جاهزة تحتاج فقط إلى تغيير الاسم ، أما المطربون والفنانون فلا يختلفون بشيء عن زملائهم (بالفن) الشعراء .

رئيس الوزراء ، حامل لواء الإسلام ومحارب الفساد الأخلاقي ، لم يخرج عن هذه القاعدة ،فهو (يسترطب ) حد الثمالة من يقول له كلمات المديح حتى ينسى أحيانا حملته الإيمانية لمحاربة الفساد والمفسدين ،فهو الذي أمر بإلغاء الفقرات الغنائية والموسيقية من مهرجان بابل .يبعث ببرقية تهنئة وباقة ورد من الطراز الملكي إلى قناة فضائية مختصة بإنتاج الأغاني الهابطة من قبيل (الفيل يطير ، وبلبلة ، وهاجنة ) بمناسبة الذكرى الثانية لانطلاقتها الميمونة لا لشيء سوى لأنها أنتجت أغاني تمجد وتثني على المنجزات العظيمة لدولته ،كان آخرها ( احنه اخوة صلفة ) التي تمجد وتهلل بحمد الرب على القوة الضاربة للقوات المسلحة بقيادة القائد العام ( المفدى ). وأسرني أحد الزملاء وهو قريب من تلك المؤسسة أن رئيس الوزراء أمر بتخصيص قطعة أرض في منطقة راقية في بغداد لبناء مقر لتلك القناة المباركة !

وقد يكون هذا النموذج مفردة من معجم المفاهيم المستنسخة تبدأ بتشريع قوانين مقيدة للحريات ومصادرة للحقوق ولا تنتهي إلى الظلم والاستبداد والافتراء وتحريك ملفات التسقيط السياسي عبر القضاء المغلوب على أمره ، هكذا إذن تستنسخ المفاهيم في إدارة الدولة ، هكذا إذن نستدعي إلى الذاكرة ما كان يقوم به القائد الضرورة المقبور صدام ، هكذا إذن نجسد مفاهيم معاوية بن أبي سفيان ونحن نلطم الصدور ونجزع حزنا على علي وابنيه المظلومين !

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمودالثامن: أين اختفوا؟

العمودالثامن: متى يعتذر العراقيون لنور زهير؟

العمودالثامن: لماذا يكرهون السعادة؟

العمودالثامن: نظرية "كل من هب ودب"

العمودالثامن: كيف ننجو؟

 علي حسين عام 1965 قرر رئيس وزراء ماليزيا آنذاك، تونكو عبد الرحمن، أن يطرد سنغافورة من الاتحاد الماليزي، في ذلك الوقت سأل أحد الصحفيين رئيس وزراء سنغافورة ماذا سيفعل؟ كانت الجزيرة بلا موارد...
علي حسين

باليت المدى: بين الحقيقة والخيال

 ستار كاووش خرجتُ من متحف لام وأنا مُحَمَّلٌ بفتنة الأعمال الفنية والابتكارات المختلفة التي ملأت صالات العرض. وما أن وضعتُ قدمي خارج الباب الزجاجي للمتحف، حتى إنعكس لون الحديقة الأخضر على وجهي. حديقة...
ستار كاووش

الزوجَة الطِفلَة بين التراجيديَّة والكوميديَّة الفقهيَّة

د. لؤي خزعل جبر مِن علاماتِ شعبويَّة ووهميَّة الجدل بين المُنتقدين والمؤيدين للتقنين الفقهي الشيعي ما يسود بخصوص معقوليَّة زواج المرأة بعمر التاسِعَة، إذ يرى المُنتقدون إنَّ المرأة في التاسعة طِفلَة، ويقبُح تزويجُ الطِفلَة،...
د. لؤي خزعل جبر

أكثر من حرب على صوت المرأة

حازم صاغية حينما يوصف أحدهم بأنّه "مسموع الصوت"، يكون المقصود أنّه مؤثّر أو نافذ. فالصوت أداة قوّة وتمكين، ولأنّه كذلك كان مَن يطالب أو يحتجّ "يرفع صوته"، فحين لا يُلبّى طلبه يرفعه أكثر إلى...
حازم صاغية
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram