تواصل المدى نشر الأعمدة الثقافية، والتي سبق وأن أرسلها الفنان الرائد الراحل سامي عبد الحميد إلى المدى، بغية النشر. والمدى إذ تنشر هذه الأعمدة تؤكد الحضور الثقافي الفاعل الذي كان يميز فناننا الكبير.
سامي عبد الحميد
سواء في كتابة المسرحية وبناء أحداثها ورسم شخوصها أم في إخراج مكوناتها السمعية – إلقاء الحوار والصمت والمؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية ، أم في مكوناتها المركبة – الممثل والزي الذي يرتديه والماكياج الذي يضعه على وجهه ، المنظر الذي يحيط به والاضاءة المسلطة عليه والمؤثرات البصرية الأخرى مثل الصور المنعكسة على الشاشة ، أم في مكوناتها المتحركة – الممثل والمنظر والإضاءة . أم في تمثيل شخصياتها وصفاتها وأفعالها وأهدافها علاقاتها ، وبمعنى آخر كل ما نراه ونسمعه ونحن نشاهد العرض المسرحي يجب أن يكون وراءه تبريراً منطقياً مقنعاً وليس مقنّعاً أو مزيفاً .
حتى الأمور غير المبررة مثل التشويهات والمبالغات والمتناقضات التي تقتضيها بعض المدارس الفنية التعبيرية والدادائية والسوريالية ، لها مبررها وهو افرازات اللاوعي أو الحلم أو الكابوس . وحتى اللا مألوف كذلك الذي يفعله عامل التغريب البريختي له تبرير، هو نقده وإيجاد البديل له.
إن الأقناع عامل مهم من عوامل متعة مشاهدة العمل المسرحي وهذا العمل يبنى على مبدأ – الاقتناع والاقناع – إقنتاع المشاركين بما يفعلونه وإقناع الجمهور الذي يشاهدونه، كيف نقتنع نحن المشاهدين بوجود مايكروفونات أمام شخصيات مسرحية واقعية تدور أحداثها في منزل عراقي تقدم في مسرح صغير ولا يكون الهدف من وضعها إيصال أصوات الممثلين إلى الجمهور ، كيف نقتنع نحن المشاهدين بوجود منظر لجدران سوداء رُسمت عليه رسومات تجريدية في مصحّة لكبار السن .. وكيف نقتنع نحن المشاهدين بمشهد يظهر فيه عدد من الأشخاص من ثقوب شرشف مائدة يحيطون بممثل يمثل الشخصية الرئيسة في المسرحية . كيف نقتنع بوجود سكك حديدية موضوعة على خشبة المسرح ولا يمر عليها قطار كيف تقتنع أنت يا متفرج بصرخات مفاجئة يطلقها الممثل من غير تبرير، كيف تقتنع أنت يا متفرج بحركات نشطة سريعة لممثلين يمثلون عجائز بعمر يزيد على الثمانين سنة.
يقول السيميولوجيون بأن العرض المسرحي شبكة من المعلومات بمعنى أن كل ما نراه ونسمعه في هذا العرض أو ذاك يكوّن دوال لها مدلولات بمعنى أشكال لها مضامين . الكلمة دالٌ ولها مدلول – معنى والحركة دالٌ ولها مدلول وتبرير . الإيماءة الصوتية دال لها مدلول والايماءة الجسدية دالٌ لها مدلوله – تبرير . لماذا نصمم مفردة ديكورية في عرض مسرحي ولا نبرر وجودها الوظيفي أو التزيني . لماذا يستخدم هذا المخرج كرسياً متحركاً في عرض مسرحي من غير أن يكون هناك شخص من شخوص المسرحية مصاب بعاهة في ساقيه؟
لماذا يقدم ذاك المخرج مسرحية تقع أحداثها داخل قلعة قديمة في إحدى الحدائق ؟ لماذا يتخيل ممثل دور (ماكبث) الخنجر الذي يروم ان يقتل به الملك ( دانكن) في حين يتم قتله بحادث مروري ؟ لماذا يقوم هذا المخرج أو ذاك بحذف مشاهد كثيرة من النص المسرحي الذي كتبه مؤلف قديم إذا لم يقدم تبريراً منطقياً لذلك الحذف ؟
كثيراً ،لا نجد أي مبرر لممثلين في أيامنا هذه يمثلون شخصيات في مسرحية واقعية حديثة يتحادثون فيما بينهم وهم يوجهون خطابهم الى الجمهور بدلاً من توجيهه نحو بعضهم . صحيح إن الفن ليس استنساخاً للصور الحياتية بل إضافة أو تعديل لها ولكن ما هو المبرر عندما تتحاور شخصيات المسرحية بينما توجّه حوارها نحو الجمهور . في هذه الأيام ألاحظ ان بعض المخرجين العراقيين وبعض المخرجين العرب يستخدمون الدخان الاصطناعي في عروضهم المسرحية وعندما تبحث عن مبرر لإثارة هذا الدخان لا تجده . وفي هذه الأيام تقدم بعض العروض المسرحية بإضاءة خافتة بحيث يصعب على المتفرج أن يرى وجوه الممثلين وتعبيراتها وكأن المخرجين لا يعرفون إن الإظهار أول وظائف الإضاءة المسرحية . نعم التبرير مطلوب وحتى اللا مبرر يجب تبريره .